سواء رضيَها أم أسخطها. ولا مريةَ أن إتيانَ الشيء بعد العلم بحاله أدعى للدوام عليه إن كان خَيْرًا، وأقربُ إلى الانكفاف والتقهقر عنه في حال سخافته وكراهته التي تنطبع في النفس مع العلم بحاله، مهما غولطت تلك النفسُ في انطباعه، أو عرضت سُحبُ وهمها لستر شعاعه.
[المقدم منه والمتعين]
الغاية التي حض الله تعالى عليها الناس بلولا المتلوة بالفعل هي الفقه في الدين، والفقه إدراكُ الأشياء الخفية، وهو بهذا المعنى بابُ الحكمة، أو هو الحكمة نفسها. ولذا نرى الله تعالى ينفي عن أقوام الفقه في مواضع الخفاء، نحو ما قال:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء: ٤٤]، فهو تَمهيدٌ للعذر في الجملة، وينفي عن آخرين العلم في مواضع الظهور نحو "لا يعلمون"، وفرق ما بين العلم والفقه.
كان الله تعالى - ولا يزال - حريصًا على المؤمنين أن يتلقوا الدينَ بفهم لخفاياه وأسراره، فأوصاهم في غير موضع بالفهم والاستنباط والعلم، مرة بالتصريح وأخرى بالإشارة، حتى بترك البيان في مواضع. وذلك أرشدنا إلى أن الغايةَ المطلوبة من العلم - كيفما كان - هي الوصولُ إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، بحيث لا يحتمل نقيضًا، ولا يؤثر فيه تشكيكُ المشكِّكين، ولا اعتراضُ أو سخطُ الواهمين.
سنَّ الله تعالى النفرَ في طلب العلم، والعلم وإن كان ربما وُجد في فسطاطك بل في بيتك، فقد كان النفر والرحلة من أكبر ما يفيد قوتَه وكمالَه. وبمقدار الرحلة إليه تحصل غاياتٌ شريفة من معانيه؛ لأن التعلمَ باعتبار المغبَّة يؤول إلى توسيع الرأي وقوته، ليكون رائدَ نفسه بنفسه. والعملُ الذي هو موجِبُ رسوخ الملكات في أصحابها ونموِّها في جانب العلم والرأي، هو ملاقاةُ الآراء وتقادحُها، حتى قيل:"ما بين الرأيين رأي".
انظر إلى رجلٍ يقرأ في بيته ما يقرأ الناس، كيف لا تجده على كمال نحو ما تجد المتعلم بالدروس العامة؛ لِمَا يلقاه من مقادحة الأفكار ومبادلة الآراء. وفي ذلك