للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد قرر أئمةُ الحديث أن أسباب الوضع كثيرة: منها الافتراء والنسيان والغلط. ومنها التعمد عن حسن نية باعتقاد أن فيما يرويه حملَ الناس على فعل الخير، كما قال بعضُ الوضاعين لما قيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كذب عليَّ متعَمِّدًا فليتبوَّأْ مقعدَه من النار"، (١) فقال: "إنما كذبتُ له لا عليه! " (٢) ويكون [الوضع] لتأييد المذاهب والآراء، وإن ستورَ التمويه والتلبيس في أحوال الرواة وأسمائهم الخلابة أصناف، منها الخصيب ومنها الشفاف.

واتفق علماء السنة على عدم قبول الحديث الضعيف فيما عدا فضائل الأعمال. واختلفوا في قبوله في خصوص فضائل الأعمال، بناءً على أن فضائلَ الأعمال داخلةٌ تحت كلياتٍ شرعية هي الشاهدةُ لقبولِها بوجه كلِّي، فلا يفيدها الحديثُ الضعيف إلا تعيينَ وقت أو عدد.

[الرأى فيها من جهة النظر]

لعلَّ فيما مهدتُه أولَ هذا المقال مقنعًا لفطِنٍ لا تفوته معه الدواعي الوافرةُ التي بعثت على ظهور هذه الأخبار بين الناس، وتطايرها في الآفاق، وكثرة رواتها. وأزيد هنا ما هو أخصُّ بغرضنا، وهو أن أخبارَ المهدي لو كانت من الشهرة الصحيحة بالحال الذي نشاهد عليه أسانيدَها من عزوِّها إلى رواية ثمانية عشر من الصحابة بأسانيد مختلفة، وكانت تلك النسبةُ حقًّا وأسانيدُها مقبولة، لمَا فات جميعُها أو بعضُها الإمامين الجليلين البخاري ومسلمًا في صحيحيهما المجعولين لرواية ما صح


(١) صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الأحاديث ١٠٧ - ١١٠، ص ٢٤؛ صحيح مسلم، المقدمة، "باب تغليظ الكذب على رسول الله"، الأحاديث ١ - ٤، ص ١٢.
(٢) ذكر القرطبي عن الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين أن أحدَ الزهاد قام بوضع أحاديث في فضل القرآن وسوره حسبةً فسئل لم فعل ذلك؟ فأجاب بأنه رأى الناس زهدوا في القرآن فأحب أن يرغبهم فيه، فقيل له: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"، فقال: "أنا ما كذبت عليه، إنما كذبت له! " القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري: التذكار في أفضل الأذكار، تحقيق فواز أحمد زمرلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط ١، ١٤٠٨/ ١٩٨٨)، ص ٢٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>