للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموضوع، وكثرة المعاني فيه، فيكاد ييأس من المقدرة عليه؛ إذ تلوح له معانٍ كثيرة فيروعه انتشارُها، ولا يدري كيف يبتدئها. ولكنه إنِ اتبع هاته الطريقةَ المشروحة، ورتَّب المعاني الأساسية، وآخى بين المعاني الفرعية التي هي من نوعٍ واحد وأحسن ترتيبَها، فذلك وقتُ رفع القلم من الدواة للكتابة أو وقت الانتصاب للخطابة؛ لأن ثمار الفكر قد أينعتْ وآن قطافُها.

[مثال للتمرين]

كتب ابنُ الأثير في الزهد في الدنيا ما يأتي: "الناسُ في الدنيا أبناءُ الساعة الراهنة، وكما أن النفوسَ ليست فيها بقاطنة فكذلك الأحوالُ ليست بقاطنة (١)، [ولهذا كانت المآتِمُ بها كالأعراس، يتفرق نديُّ جمعها، فهذه تُنْسِي ما مضى من لذة سرورها، وهذه تُنْسِي ما مضى من ألَم فَجعها]. ولا شبيهَ لها على ذلك إلا الأحلامُ يتلاشى خيالُها عاجلًا، وتجعل اليقظةُ حقَّها باطلًا، وما ينبغي حينئذ أن يُفرح بها مقبلةً، ولا يُؤسَى عليها مدبرة، وكلُّ ما تراه العينُ منها ثم يذهب فكأنها لم تره. وغايةُ مطلوبِ الإنسان منها أن يُمَدَّ له في مُدة عُمُره، وَيُمْلى له في امتداد كُثْره. أما تعميرُه فيعترضه المشيبُ الذي هو عدمٌ في وُجود، وهو أخُو الموتِ في كلِّ شيءٍ إلا في سكنى اللحود، [فالجوارح التي يُدرك بها الشهوات تُرَى وكلٌّ منها قد تحوَّل، وأصبح كالطلل الدارس الذي ليس عنده من مُعَوَّل، فلَا لَيْلى بِلَيْلَى ولا النَّوَّار بالنَّوَّار، ولا الأسماعُ أسماع ولا الأبصارُ أبصار]. وأما مالُهُ فإن أمسكهُ فهو عرضة لوارثٍ يأكلُه، أو لحادثٍ يستأْصِله، وإن أنفقَهُ كان عليه في الحلال حسابًا وفي الحرام عقابَا. فهذه زهرةُ الدنيا الناضرة، وهذه عقباها الخاسرة". (٢)


(١) أي مقيمة وباقية أو دائمة.
(٢) ابن الأثير: المثل السائر، ج ١، ص ١٢١ - ١٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>