للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المدينة الفاضلة (١)

[[تمهيد]]

لم تزل أمنيةُ كلِّ مصلحٍ قيضه الله للبشر أن يهديَ الناسَ إلى تكوين ما يُسمَّى في عُرْف الحكماء بالمدينة الفاضلة. وهم إن اختلفت عندهم الأسماء لاختلاف أساليب التعبير في اللغات لا نجد بينهم اختلافًا في أن مُسمَّى الذي يدعون إليه هو مسمى ما عناه الحكماء المدينة الفاضلة: مجتمعٌ من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل. ذلك أن الإنسان مدنِيُّ بالطبع، كما هو مشهور على الألسنة. (٢)

[[الفطرة وأصول الاجتماع الإنساني]]

وقد علل كثيرٌ من الحكماء كونَ الإنسان مدنيًّا بالطبع. وأنا أختصره وأزيد بيانًا؛ فمعنى كونه مدنيًّا بالطبع أنه بطبع خلقته مجعولٌ لأَنْ يكون مدنيًّا، لأنه خُلق بحيث لا يستقِلُّ وحده بأمر نفسه، بل هو محتاجٌ إلى مشاركة غيره من بني جنسه؛ لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجبلي وتفكيره. فالضعف الجبلي جعله محتاجًا إلى مكملات يصير بها قويًّا على مصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله متطلعًا إلى أن يعيش كما يحب لا كما يلقى، وذلك بالمُقام حيث يريد دون انزواء أمام الحوادث المغتالة، وبتحصيل ما لا يستطيع نوالَه مع فرط رغبته. فزاد بالتفكير ضعفُه جلاءً؛ لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، على حد قول أبي الطيب:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ (٣)


(١) الهداية الإسلامية، المجلد ٩، الجزء ١٠، ربيع الآخر ١٣٥٦/ يونيو ١٩٣٧ (ص ٥٧٨ - ٥٩٤).
(٢) سيأتي كلام الفارابي وابن خلدون في بيان معنى هذه المقولة وتعليلها في حاشية قادمة.
(٣) سبق توثيق هذا البيت.

<<  <  ج: ص:  >  >>