١ - فأمّا حرية الاعتقاد فقد أسّس الإسلامُ حريةَ العقيدة بإبطال العقائد الضّالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فإن محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا ما لا قِبَل له بجَوَلان الفكر فيه أو ما يموه بتخيلات، وتكليف اعتقاد ما لا يُفهم ينافي الحرية. فبيّن الإسلام الاعتقاد الحق، ونصب الأدلة عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة؛ قال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[يونس: ١٠١].
ولقد اختلف الصحابة وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة، كمسألة الإمامة والقَدَر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة تُرغِم غيرها إلّا إذا خرج المخالف عن حدّ المناظرة إلى المغالبة والإرهاق. وانقسم المسلمون إلى طوائف مختلفة الاعتقاد؛ من آخذين بما ورد في السنة دون تأويل، وآخذين بذلك مع التأويل، ومن خوارج وقَدَرية، وجبريّة ومرجئة، ومعتزلة، وظاهريّة، وصوفية.
فلم يكن أهلُ حكومة الإسلام يجبرون الناسَ على اتباع معتقدهم، بل كان الفصلُ بينهم قائمًا على صحة الحجة وحسن المناظرة، إلى أن ظهرت في القرن الثالث مسألةُ خلق القرآن وإثبات الكلام النفسي القديم التي أيقظت عينَ الفتنة، وابتُلي فيها أهلُ السنة ببغداد ومصر. وظهرت بالقيروان مسألةُ الاستثناء في الإيمان، وهي قول المؤمن:"أنا مؤمن إن شاء الله"، ومسألة العندية في الإيمان، وهي قولُ المؤمن:"أنا مؤمن عند الله". وتبعت ذلك فتنٌ تبدو وتخفى، وتلتهب تارة ثم تُطفى.
لم يسمح الإسلامُ بتجاوز حريّةِ الاعتقاد حدَّ المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يُفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية، فلا يكون محمودًا. فالذي يعتقد عقيدةَ الإسلام ثم يخرج منه فهو المرتدّ، فارتداده إمّا أن يكون مع إظهار الحِرابة للإسلام.