للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يظهر رَوْنَقُه إلا إذا صح معناه، وجادت ألفاظُه.

[التمرن على الإجادة]

معالجةُ المتكلِّمِ أداءَ ما قرره وهذبه من المعاني بما يناسبها من اللفظ، وما يناسب غرضَ الكلام ومقامَه، هو غايةُ علم الإنشاء؛ لأن تلك المعالجةَ تصير دربةً وبيانا. ويحصل ذلك بمطالعة كلام البلغاء، وتتبع اختيارهم، وسَبْر أذواقهم في انتقاء الألفاظِ وابتكار المعاني، لتنطبع في الذهن صورٌ مناسبة، كما تقدم في أساليب الإنشاء. فيحصُلُ من ذلك ما لا يحصل من دراسة قواعد الفصاحة والبلاغة، وقد قالوا: "إن السمع أبو الملكات اللسانية". (١)

ولهذه المعالجة طرائق: إحداها المطالعة، ثانيتُها الحفظ، ثالثتُها حلُّ الشعر وعقدُ النثر، بمعنى تصيير الشعر نثرًا والنثرِ نظمًا، مع المحافظة على أصل المعنى، سواء كان بتغييرٍ قليلٍ في اللفظ وفي المعنى أم بدونه. ومن أحسن حل الشعر قولُ صاحب "قلائد العقيان": "فإنه لما قبحت فعلاتُه، وحنظلت نخلاتُه، لم يزل سوءُ الظن يقتاده، ويُصَدِّق تَوَهُّمَه الذي يعتَادُه"، (٢) حلَّ به قول المتنبي:


= عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه، ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم". مقدمة ابن خلدون، ص ٥٦٦ - ٥٦٧ (وانظر كذلك ص ٥٨٣).
(١) المصدر نفسه، ص ٥٤٦.
(٢) لم أجد هذا الكلامَ في "قلائد العقيان"، لكن ذكره بعضُ علماء البلاغة والبيان ناسبين إياه إلى "بعض المغاربة"، وأنه حل به بيتَ المتنبي المذكور. انظر مثلًا: القزويني، جلال الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب: التلخيص في علوم البلاغة، ص ٤٢٦ - ٤٢٧؛ العبادي: معاهد التنصيص، ج ٢، ص ١٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>