ثم تعجّب من خلوِّ دولة الرسالة عن كثير من أركان الدول وعن الخوض في نظام الملك، إلا إذا كان ذلك لم يبلغ إلينا. على أن كثيرًا من الأنظمة المتبعَة في الدول إنما هو مصطلحاتٌ ليست ضرورية لنظام الدولة، ولا تناسب أخلاقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك التكلف وترك الرياء والسمعة، فلذلك كان نظامُ الحكم في زمانه - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا عن التكلفات، إلخ.
وما أجدرَ هذا الكلام بأن يكون فصلَ المقال، لولا أنه صرح في صحيفة ٦٢ و ٦٣ بعدم ارتضائه، فتطلب لحل الإشكال وجهًا آخر من ورائه.
وخلاصةُ الحق في هذا المبحث أن الملك العادل الحق لا ينافي الرسالة، بل هو تنفيذٌ لها، وأن من الأنبياء من اجتمع له الملك والنبوة مثل داود - عليه السلام -، قال الله تعالى:{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}[البقرة: ٢٥١].
[الباب الثالث: رسالة لا حكم، دين لا دولة]
ذكر من صحيفة ٦٤ إلى صحيفة ٧٠ ما خلاصته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له ملك ولا حكومة، ولا قام بتأسيس مملكة. نعم إن الرسالة تستلزم للرسول نوعَ زعامة في قومه وما هي كزعامة الملوك على رعيتهم، فإن زعامة موسى وعيسى لم تكن زعامةً ملوكية، كما أن الرسالة تستلزم لصاحبها نوعًا من القوة ليطاع وتستلزم له سلطانًا أوسعَ مما يكون بين الحاكم والمحكومين وبين الأب وأبنائه. وقد يسوس الرسول الأمة سياسة الملوك، وله وظيفةٌ زائدة وهي اتصاله بأرواح الأمة لا سيما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بدعوة عامة؛ فهي توجب له من تأييد الله ما يناسبُ تلك
= ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضته لهم العصبيةُ لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه؛ لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم". مقدمة ابن خلدون، ص ٢١٢ - ٢١٣ (الفصل الثالث والثلاثون من الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول والملك والخلافة والمراتب السلطانية).