كان في خاطري أثناء العمل في جمع مادة هذه الجمهرة من مقالات الشيخ ابن عاشور ورسائله أن أقدم لها بمقال تحليلي ضافٍ عن مضمونها: أتتبع فيه الموضوعات التي طرقها والمسائل التي بحثها والأسئلة التي أثارها، وأحلل الأفكار التي عبر عنها، والأطروحات التي صاغها، والرؤى التي بلورها، وأعرض النتائج التي انتهى إليها، والمواقف التي قررها، وأترسم الطرائق التي سلكها، والمناهج التي اجترحها، وأكشف عن الوشائج التي تصل بينها، وانظر في ذلك كله مقارنةً وموازنة بتراثٍ يشاكل محتويات جمهرتنا لبعض سابقي منشئها القريبين ومعاصريه المقارنين، من علماء ومفكرين حملوا همَّ الإصلاح وعبءَ النهوض وناضلوا في سبيلهما. والغرض من كل ذلك وضعها في سياقيها الذاتي من حيث مكانها في حياة منشئها وعلاقتها بتطور مسيرته العلمية وتراكم خبرته العملية، والموضوعي من حيث مكانتها في سياق التطور الفكري والثقافي في تونس خاصة والعالم العربي الإسلامي خاصة.
ولكن ما أن استتب الأمر، وتبين لي الحجمُ الحقيقي لهذه الجمهرة ومدى سعة مادتها وتنوع موضوعاتها وتعدد أبعادها، حتى تحولتُ عن ذلك الخاطر، ورجحتْ عندي صعوبةُ تحقيقه، إلا أن أحبس ما جمعتُ شهورًا أخرى قد تمتد لسنة أو أكثر. وفضلًا عن ذلك، رأيتُ أن إنشاء مثل هذا المقال ووضعه بين يدي هذه الجمهرة قد يوحي إلى القارئ بل ربما يفرض عليه نهجًا معينًا في قراءة محتوياتها والتفاعل معها، وهو ما لا أريد أن أبوء به في حق القارئ النبيه: احترامًا لرشد عقله واحتفالًا بسديد فهمه وتعويلًا على سليم فطرته، وإن كان ذلك مما قد يُستحسن - بل يجب - في حق غير النبيه، أو الذي استُلِب عقله وانطمس فهمُه وفسدت فطرتُه.
ومع ذلك فإن العزم منعقد - إن يسر الله وشد مني الهمة وأفسح في المهلة وأنعم بالصحة وقلة المشاغل - أن أخصَّ هذا الجانبَ المهم من الإنتاج العلمي