فقوله:"وما ينبغي حينئذ أن يُفرَح بها مقبلة، ولا يُؤسَى عليها مدبرة"، هو المعنى الأساسي. وقوله في الدنيا:"ولا شبيهَ لها إلا الأحلام. . ." إلخ الفقرات، وقوله:"وهو أخو الموت في كل شيء. . ." إلخ الفقرة، من قبيل إيضاح المعنى. وقوله:"الناس في الدنيا"، وقوله:"وكل ما تراه العين" مع بقية الكلام، ذلك كلُّه من قبيل تفصيل المعنى. وقد خلط ترتيبَها خلطًا تظهر به مقدرةُ المتعلم عند تمييز بعضها من بعض بحسب المراتب الثلاث المذكورة.
[أساليب الإنشاء]
للإنشاء أساليبُ متنوعةٌ باختلاف الأغراض، والمعنِيُّ باختلاف أساليب الإنشاء اختلافُ مستعمَل الألفاظ، واختلافُ كيفيةِ ربطِ الجُمَل تبعًا لاختلاف الأغراض. وذلك أمرٌ وراء اختلافِ المعاني واختلاف مقتضيات الأحوال، المدوَّنُ لأولها علمُ اللغة والنحو والصرف، ولثانيها علم البلاغة، وهو الأمرُ الذي إذا حصل جاء الكلامُ عربيًّا، وبضياعه تضيع اللهجةُ العربية مع بقاء المفردات اللغوية، وبقاء قواعد فن البلاغة (١). ولهذا لا تجد مشابهةً بين كلام المتكلِّفين من الأدباء
(١) لأن اللغة ألفاظٌ مفردة، وجمل مركبة، وكيفية نظم الجمل. فإذا عرف الإنسانُ المفرداتِ من علم اللغة والتصريف، وعرف التركيبَ من علم النحو، وعرف ما يجب تقديمُه وتأخيره وحذفه ونحوه من علم البلاغة، استطاع أن يأتي بكلام مفيد، كما نقل الجاحظ في "البيان" أن رجلًا يدعى نفيسًا قال لغلام الجاحظ: "الناس ويلك أنت حياء كلهم أقل" [الجاحظ: البيان والتبيين، ج ٢/ ٤، ص ١٦]، يريد أنت أقل حياء من جميع الناس، ويلك. فهذا عرف المفردات، ولم يعرف ترتيب التركيب، ويسمى هذا بالتعقيد، فبمعرفة قواعد النحو والبلاغة يحترز عن هذا. ويبقى النظرُ في نظم الكلام وربط بعض جمله ببعض، وهو فن الإنشاء. وليس في علم البلاغة من قواعد ذلك إلا مسائلُ غير كثيرة، كمسائل الفصل والوصل والإيجاز والإطناب، ومسائل التخلص والاقتضاب، وبعض المحسنات المعنوية. ومع ذلك فإن الإحاطة بقواعد البلاغة لا تفيد وحدها إنشاءَ كلام عربي بليغ، ألا تري أنه قلما وجدنا مشابهةً بين كلام المولدين وكلام العرب؟ وذلك لقلة حفظ النثر العربي، وترى الشعر أشبهَ بالشعر العربي من النثر بالنثر العربي. وما سبب ذلك إلا كثرةُ ما حُفظ من الشعر العربي، وقلة ما حفظ من النثر. ولولا القرآن لما بقي مَنْ يستطيع أن ينشئ إنشاء عربيًّا نثريًّا، غير أن ذلك لا يكفي في استيعاب جميع الأساليب. - المصنف.