وهذا الطريق مهما كان وعرًا فإنه في تاريخ الإسلام أوعر وأجهد للباحث؛ إذ قد سبق لمؤرِّخينا من إهمال العناية باستنتاج الغايات من أسبابها وإهمال التعليل - لا سيما في نشأة الدين - ما ينوء بهمة المريد للفلسفة العمرانية، خصوصًا في مثل هذا الموضوع العلي. اللهم إلا متى كان ذا قريحة وقادة ترمي بسهمها الأفلج شارد الحقيقة فتصيب شاكلتها، وتضيء بنورها الأبلج مهامه الأوهام فتنيرها.
ولا أكتمكم أني لست عند هاته الأوصاف، وإن حسنت ظنونُكم فِيَّ حين الاقتراح. بيد أني لا أعدم عزيمةً ومصابرة يلين أمامهما بعضُ ما قد كان شديدًا، فلذا رأيت أن أجعل عمدتَنا في هذا الموضوع روحَ الإسلام وحقيقتَه من الكتاب والسنة، مع الاستعانة في ذلك بآراء المحققين من أهل عصرنا وقواعد الأئمة من سلفنا، وأسمح منكم أن تصفحوا عما عساكم أن تروه من تقصير.
أرى أولَ شيء يفتح لنا بابَ الحديث هو النظر فيما هو المقصد الذي يسعى إليه الإسلام؛ لأن الباحث عن حقيقة شيء مضطرٌّ للبحث عن مقاصده وآثاره ليرى هل كانت الآثارُ جاريةً على خطة المقصد، ولأنه لا يمكننا استقصاءُ البحث في جميع ما نشأ عن الإسلام من فروع المدنية وتشخيص مبلغ المسلمين فيها الذي أهلهم إليه دينُهم. بل نكل ذلك إلى تاريخ الحضارة الإسلامية لنراهم كيف كانوا لا يخطون إلى شيء إلا بعد الإذن فيه من دينهم، وكيف خطوا خطًى واسعة من التقدم والمدنية قد أصبح الكثيرُ من الناس يعد معشارها اليوم زندقة ومروقًا من الدين. فعقدة بحثنا الليلة في أسس الارتقاء البشري أين أقامها دين الإسلام، وثمرتنا من هذا شيئان: أولهما فلسفة عمرانية لهذا الدين المبين، وثانيتهما تشخيص حقائقه لمن قد يذهل عنها.
[ما هو الإسلام؟]
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠)} [الروم: ٣٠]. تتنزل هذه الآيةُ المباركة منزلةَ التعريف لهذا الدين، فمن الواجب أن نلم بخلاصة معناها،