هذه التأملاتُ والاعتبارات هي التي ترجع بنا إلى وضع المصطلح الفقهي المشترك بين عامة المذاهب الإسلامية، ثم إلى الفوارق التي نشأت في ذلك المصطلح بين مذهب ومذهب، وإلى مناشئ تلك الفوارق، ثم إلى ما كان للمذهب المالكي بالخصوص في تلك الفوارق من مميزات، وما كان لمميزاته من اقتضاءٍ خاص لِمَا انفرد به من المصطلحات، لِمَا شاع من الرجوع إليها أكثر من غيرها في علوم القانون.
لَمَّا كان علمُ الفقه أولَ متكوِّن من روح الثقافة الإسلامية، وكان متصلًا مباشرةً بالكتاب والسنة، فلا جرم كان بذلك هو المظهرَ الأول لما أحدث الإسلامُ من تطور في اللغة العربية، تطورًا جعله الإمامُ جلال الدين السيوطي موضوعَ النوع العشرين من كتاب "المزهر" الذي ترجمه بمعرفة الألفاظ الإسلامية وبناه على فصل من قيِّم كلام أحمد بن فارس. (١)
(١) المزهر ص ٤٣، ط بولاق. - المصنف. وكلام ابن فارس الذي بنى عليه السيوطي قولَه في النوع المذكور هو قوله: "كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونُسخت ديانات، وأُبطِلت أمور، ونُقلت من اللغة ألفاظٌ من مواضع إلى مواضع أخر، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شُرطت، فعفَّى الآخرُ الأولَ. فكان مما جاء في الإسلام ذكرُ المؤمن والمسلم، والكافر والمنافق. وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعةُ شرائطَ وأوصافًا بها سُمي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا، وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسلامَ الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والسَّتر، فأما المنافق فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غيرَ ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع. ولم يعرفوا الفسق إلا قولهم: فسقت الرُّطَبة، إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأن الفسق الإفحاشُ في الخروج عن طاعة الله تعالى". ثم قال بعد أن ذكر ألفاظًا أخرى الصلاة والسجود والركوع: "وعلى هذا سائر أبواب الفقه. فالوجه في هذا إذا سئل الإنسانُ عنه أن يقول: فيه اسمان: لُغوي وشرعي، ويذكر ما كانت العربُ تعرفه، ثم جاء الإسلام به. وكذلك سائر العلوم، كالنحو والعروض والشعر، كل ذلك له اسمان: لغوي وصناعي". السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، نشرة بعناية فؤاد علي منصور =