للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وللغرض المنوَّه به آنفًا حظٌّ جزيلٌ من بيان شيء من روح الشريعة المحمديّة ومزاياها. يتقدم البحث عن أثر الدعوة المحمديّة في هاتين الخصلتين بمقامين: الأول في بيان مقدار علاقة الحرية والمساواة بالشريعة، الثاني في بيان انتشار الحرية والمساواة في الأمم الخارجة عن الإسلام من الأمم المعتبرة في العالم يوم البعثة المحمدية.

[المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية]

وهو مقام يستدعي شيئًا من الإطالة ليكون الحكمُ فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدودًا دقيقة بعضها محمود نافع، وبعضها ضارّ مذموم.

[الحرية]

لا تجد لفظًا تهواه النفوس، وتهش لسماعه وتستزيد من الحديث فيه، مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه، مثلَ لفظ "الحرية". وما سببُ ذلك التعلق العام إلّا أن معظم مَنْ يسمعون هذا اللفظَ أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم. فالوَقِحُ يحسب الوقاحةَ حرية، فيخف عنده ما ينكره الناسُ من وقاحته. والجريء الفاتك يَنْمِي صنيعُه إليها فيجد من ذلك مبررًا لجرأته، ومحب الثورة يَعُدّ الحرية مسوِّغًا لدعوته، والمفتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حرّ العقيدة، إلى غير هؤلاء. فيا لله لهذا المعنى الحسن! ماذا لقي من المحن، وماذا عدل به عن خير سنَن!

والتحقيقُ أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعةُ والأخلاق الفاضلة. ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظَ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرِّق، وقد شاع عند العرب أن يُلصقوا مذامّ الصفات النفسانية بالرقّ، إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهِدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة: (١)


(١) هو عمرو بن الحارث بن همام من بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل اسمه سلمة بن ذهل، شاعر جاهلي. وقيل ابن زبابة، والزبابة فأرة من فئران الحرة. - المصنف. كذا ترجم له المرزباني.

<<  <  ج: ص:  >  >>