للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُعمي ويُصِم. وهنالك اختلط الحابلُ بالنابل، والخاثر بالزباد، ولم يزل تفاقمُه في ازدياد، حتى بلغ السيل الزُّبَى، وكادت أن تذهب السُّنَّةُ أيادي سبا.

ولم تزل طائفةٌ من الأمة ظاهرين على الحق، باحثين عن مراتب الخلق، متهمِّمين بانتقاد ما صح عن رسول الله من الآثار، لم يخلُ عن طائفةٍ منهم قطرٌ من الأقطار. إلا أن جمهرة هؤلاء كانت من علماء المدينة، يتلقَّى الخلفُ عن السلف رواية الصحيح؛ إذ كانوا عاكفين على معاهد الرسول وآثاره، سالمين مما تطرق من الابتداع في بعض أقطاره، والإيمان يأرِز إليهم، وسنة الرسول شائعة بين ظهرانيهم.

وانحصر ذلك في فقهاء المدينة ورواتها، وهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، ولحق بهم محمد بن شهاب الزهري؛ فكانوا قدوةَ الرواة.

[[المائة الثانية]]

ثم انحصر علمُهم في مالك بن أنس عالم المدينة، فأزبد عنده ذلك المخض، وأفصح عن الخالصِ المحض، فانفرد في زمنه بحمل السنة الصحيحة، وعرض المرويات على محك النقد، وكان اعتماده في النقد من ثلاثة معايير: عمل أهل المدينة، وقواعد الشريعة، وصفات الرواة، ولم تجتمع هذه المعايير لغير مالك. وكان ظهور مالك في أوائل القرن الثاني في حدود سنة ١١٢ هـ؛ لأن مالكًا قد نبغ وهو شاب، وكانت ولادته سنة ٩٣ هـ وقيل ٩٦ هـ، فيكون في حدود سنة ١١٠ هـ قد بلغ الحلم أو تجاوزه. قال شعبة: "دخلت المدينة بعد موت نافع، فإذا لمالك حلقة"، (١) وموت نافع سنة ١١٧ هـ.


(١) أخرج النسائي: "أخبرنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة عن مالك بن أنس قال: سمعته منه بعد موت نافع بسنة وله يومئذ حلقة، قال: أخبرني عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليها، واليتيمةُ تُستأمر، وإذنُها صُماتُها"". سنن النسائي، "كتاب النكاح"، الحديث ٣٢٥٨، ص ٥٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>