للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتفطن علماءُ الأمة لهذا الخطب الجليل، وبدأت الشكايةُ من تساهل الضعفاء وغلاة الرواة تئن بها صدورُ أهل العلم والضبط، ففي صحيح مسلم أن عبد الله بن عباس قال: "إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ابتدرته أبصارُنا، وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف". (١)

لقد تصدى للرواية عن رسول الله، ولتفسير القرآن، أصنافٌ من الناس في العلم: فمنهم أهلُ الضبط والتحري، من أهل الفقه والإفتاء والرواة. ومنهم أصحابُ التساهل من أصحاب السِّيَر، المتبعين لكل ما جاء فيه من أثر. ومنهم الوعاظُ الذين تعلقوا بما يناسب دعوتهم من الآثار، وأبهجهم ما أعانهم من أثر يروى يعضد مقصدَهم.

ومنهم القُصَّاصُ في المساجد والنوادي، والمتجولون في الحواضر والبوادي، يُلْقون إلى اللفيف ما تقبله عقولهُم وتبلغ إليه أفهامُهم، فيتوخَّوْن أن يلتقطوا من المرويات كلَّ ما يسهل على العامة قبولُه، ويطابق ما في مخيلاتهم وإن كان ضعيفَ المعنى واللفظ. (٢) ومنهم أهلُ الأهواء والنحل الذين تعمدوا الكذبَ على رسول الله، أو تساهلوا بحسب جرأتهم على التدليس والترويج، فقد وضع الكَرّاميةُ (٣) عشرةَ آلاف حديث.

فكان أهلُ هذه الأصناف الأخيرة غيرَ مكترثين بالبحث عن صحة نسبة الآثار المروية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاكتراثهم بمناسبة الآثار لأغراضهم، وحبُّ الشيء


(١) صحيح مسلم، "المقدمة"، ص ١٤.
(٢) لعله لو قال: "كان ضعيف المعنى والمبنى"، كانت العبارةُ أرشق.
(٣) هم أتباع محمد بن كَرّام المتوَفَّى سنة ٢٥٥ هـ اشتهروا بالتشبيه في صفات الله، والقول بالإرجاء. - المصنف. قال ابن عدي في شأن أحمد بن عبد الله الهروي، المعروف بالجوباري والْجُويْباري: "وكان يضع الحديثَ لابن كَرَّام على ما يريده، وكان ابنُ كرام يضعها في كتبه عنه ويسميه أحمد بن عبد الله الشيباني". المقريزي: مختصر الكامل، ص ١٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>