للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طريقه في إحدى غزواته، وبكى عنده. (١)

[طهارة النسب الشريف]

لَمَّا جعل الله تعالى محمدًا أفضلَ رسله، وقدر أن يبعثه بشريعة هي أقومُ سبله، قدر له أكملَ الفضائل في ذاته وما يتصل به، وجعل في أول ذلك طهارةَ نسبه، حتى لا توضع جوهرتُه الفريدة في غير صدف أمثالها، ولا تزن بنقيصة تلتصق ببدئها أو مآلها. فأظهره من أكرم الأصلاب والأرحام، إذا لم يكن في عمود نسبه شيء مما كان عليه أهل الجاهلية من مجلبة الشكوك والأوهام، لا لأن بعض ما كانوا عليه يعد من الحرام، إذ لم يكن لهم شرع تتمايز به الأفعال في الأحكام، بل لأن العقودَ المسماة عندهم بالنكاح هي أرفع مقامًا، وأبعد عن أن تُسام ذامًا، (٢) والنسب بها أوثق اتصالًا، فقصر الله تسللَ رسوله على تلك الصفة لئلا يكون في نسبه غضاضة، ولا موجب انتقاص في جاهلية ولا بعدها. روى عياض في الشفاء عن محمد بن السائب الكلبي النسابة أنه قال: "كتبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة أم، فما وجدتُ فيهن سفاحًا ولا شيئًا مما كانت عليه الجاهلية"، (٣) يعني سوى النكاح، وهو العقد على المرأة عن رضا من أوليائها، ورضا منها علنًا بنية الاختصاص والدوام.

فآباءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمهاتُه كرام، خلاصةٌ من قومهم وأزمانهم، وذلك قوام صفاء النسب وزكائه. فقد جمع الله لرسوله في أصوله السؤددَ والصيانة، وأَوْفَرَ له في نفسه الكرامةَ المستبانة.


(١) روى ابن سعد بعد أن ذكر أن أم أيمن كانت تحضن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أمه آمنة ثم بعد أن ماتت بالأبواء: "فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له، فقال: أدركتني رحمتها فبكيت". الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج ١، ص ٩٥.
(٢) الذام والذأم (يُهمز ولا يُهمز): العيب. يقال: ذأَمته، أي: عِبته، وهو أكثر من ذممْته.
(٣) اليحصبي: الشفا، ص ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>