للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته]

ذلك فعل (كذب) في قول العرب "كذب عليك"، ذلك أن أصل كذب أخبر بخلاف الواقع، ثم صار كذب في معنى ضلّل وغلط. من ذلك قوله: كذبتك عينك، وفي الحديث: "وكذب بطنُ أخيك" (١). ثم صار بمعنى استخفّ به؛ لأن الذي يضلل أحدًا فقد استخف به. ثم نُقِل إلى معنى الإغراء على الانتقام؛ لأن العرب أباة الضيم لا يرضون باحتقار، قال الأسود بن يعفر:

كَذِبْتُ عَلَيْكَ لَا تَزَالُ تَقُوفُنِي ... كَمَا قَافَ آثَارَ الوَسِيقَةِ قَائِفُ (٢)

ثم أُطلق على الإغراء مطلقًا في قول عمر بن الخطاب: "كذب عليكم الحج، وكذبت عليكم العمرة، وكذب عليكم الجهاد، ثلاثة أسفار كذبن عليكم". (٣)


(١) عن أبي سعيد الخدري "أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: "اسقه عسلًا". ثم أتاه الثانية، فقال: "اسقه عسلًا". ثم أتاه الثالثة فقال: "اسقه عسلًا". ثم أتاه فقال: قد فعلت؟ فقال: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا"، فسقاه فبرأ". صحيح البخاري، "كتاب الطب"، الحديث ٥٦٨٤، ص ١٠٠٦؛ صحيح مسلم، "كتاب السلام"، الحديث ٢٢١٧، ص ٨٧٣.
(٢) الشاعر هو الأسود بن يعفر النهشلي، الدارمي، التميمي، أبو نهشل، وأبو الجرَّاح. شاعر جاهلي، من سادات تميم، من أهل العراق. كان فصيحًا، جوادًا، نادم النعمان بن المنذر. ولمَّا أسنَّ كُفَّ بصره. ويقال له أعشى بني نهشل. توُفِّي سنة ٦٠٠ م. أشهر شعره داليَّتُه التي مطلعها:
نَامَ الخَلِيُّ وَمَا أَحَسَّ رُقَادِي ... وَالهَمُّ مُحْتَضرٌ لَدَى وِسَادِي
"وهي معدودةٌ من مختار أشعار العرب وحكمها"، كما قال الأصفهاني. كتاب الأغاني (نشرة القاهرة)، ج ١٣، ص ١٥؛ الأغاني (نشرة الحسين)، ج ١٥/ ١٣، ص ١١. والوسيقة: جماعة من إبل أو حمير. والبيت أنشده الأصمعي بلفظ الوقيفة بدل الوسيقة، كما ذكر ابن السكيت، ولم ينسبه لأحد. ابن السكيت: إصلاح المنطق، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون (القاهرة: دار المعارف، ط ٤، بدون تاريخ)، ص ٢٩٢. وذكر السيوطي أن الأصمعي أنشده للأسود بن يعفر. المزهر، ج ١، ص ٣٠٢. وهو عند أبي عبيد كما أورده المصنف. الهروي، أبو عبيد القاسم بن سلام: غريب الحديث (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٤/ ٢٠٠٣)، ج ٢، ص ٢٦.
(٣) ذكر أبو عبيد القاسم أن الأصمعي قال: "معنى كذب عليكم معنى الإغراء، أي عليكم به، وكان الأصل في هذا أن يكون نصبًا، ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذًّا على غير قياس. قال: ومما يحقق ذلك أنه مرفوعٌ في قول الشاعر: =

<<  <  ج: ص:  >  >>