ولما ارتفع بناء ركن الكعبة موضع الحجر الأسود وأرادوا وضع الحجر في موضعه، اختلفت بطون قريش فيمن يتولى وضعه، وتنافسوا في الفوز بهذه المنقبة، وبلغ بهم التنازع إلى أن هموا بالقتال فقال لهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي - وكان أسنهم يومئذ -: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول داخل من باب بني شيبة، فكان - صلى الله عليه وسلم - أول داخل منه فقالوا: هذا محمد، هذا الأمين قد رضيناه. فحكموه، فقال: هلم إلي ثوبًا، فأتوه بثوب، فأخذ الحجر فوضعه فيه، ثم قال لتأخذ كل قبيلة، أي كل سيد لها بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، فلما رفعوه أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ووضعه في موضعه المعروف من جدار البيت، وبنى هنالك. فكانت صَرفةُ قريش عن المنافسة في واضع الحجر في موضعه معجزةً خفية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جعلها الله حجة له، إذ كان هو ثاني مَنْ وضع الحجر في موضعه بعد أن وضعه إبراهيم - عليه السلام -.
وألهم الله سبحانه سيدَنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلهامًا صادقًا إلى أن يجاور كل سنة شهر، فحبب إليه الخلاء. فكان يخرج إلى غار في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من مكة، يجاور به كل سنة شهرًا (والمجاورة الاعتكاف أي الخلوة للعبادة، فكان يتحنث به، والتحنث التعبد ويقال: التحنف بالفاء. والظنُّ أن الله تعالى ألهمه ما يتعبد به مما كان من دين إبراهيم، مثل النظر في دلائل الوحدانية، والسجود لله تعالى، والصيام والذكر، وما الله أعلم به منا. وثبت أنه كان في تلك المدة يطعم المساكين. ولم أر من ضبط عد السنين التي دام فيها على ذلك الجوار).
[بعثته - صلى الله عليه وسلم -]
وفي شهر ربيع الثاني من السنة الأربعين من عمره المبارك، أي سنة أربعين من عام الفيل، ابتداه الله بالرؤيا الصادقة، وهي أول ما بُدِئ به من الوحي، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثلَ فلق الصبح، أي وقع الأمر الذي رآه مماثلًا في الخارج للرؤيا.
وفي السابع عشر من رمضان من تلك السنة أوحى الله إليه وهو في غار حراء، فرأى جبريل وأقرأه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ