للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذرائعُ فساد حرية القول تكون فيما تقدم، وتكون في حرية العلم بأن تُحْملَ العلماءُ على تحريف الحقائق لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل. وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: ٧٩]، وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: ٤٤]. وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة، كما أوضحته الآثار وأئمةُ التفسير.

وتكون أيضًا في حرية القضاء؛ فلذلك حرَّم الإسلامُ الرشوة، وأوجب إجراءَ أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان. قال ابن العربي في تفسير قول الله تعالى: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: ٢٤٧]: ليس من شرط الخليفة ولا القاضي أن يكون غنيًّا، ولكنه في حكم الإسلام لا يكون إلّا غنيًّا؛ لأنه يأخذ ما يكفيه من بيت المال فغِناه فيه. (١)

[تحصيل]

إذا تبيّنتَ ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تبيُّن الحكَم البَصِير، علمتَ أن الإسلامَ بذل للأمة من الحرية أوسعَ ما يمكن بذلُه في شريعة جامعة بين أنواع المصالح، بحيث قد بلغ بها حدًّا لو اجتازته لجرّ اجتيازُها إياه إلى اختلال نظام المدنية


(١) وتمام كلام ابن العربي كما جاء عند حديثه عن صفات القاضي وشروطه: "وليس من صفات القاضي أن يكون غنيًّا بإجماع، وقد قال الله تبارك وتعالَى عن بني إسرائيل في قصة طالوت: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} الآية، والقاضي أبدًا في حكم الشرع لا يكون إلا غنيًّا أو يُغنَى؛ لأن بيت المال له ولأمثاله، ومَغْناه فيه، فلما حبس بيت المال واحتاج هو وأمثاله إليه ولم يمَكَّن منه، كان غناءُ القاضي أفضلَ من فقره". المسالك، ج ٦، ص ٢٣٤ - ٢٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>