العلمُ الغالب في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه، ولا في علم التوحيد.
[[المائة الرابعة]]
وفيما هم على تلك الحال من الهدى إذ نبعت فيهم فئاتٌ يخوضون في أصول الدين خوضًا يشوب الأدلةَ الشرعية بالأصول الفلسفية، ويُعلنون أن الحقَّ هو الذي يجب أن يكون رائدَ المسلم في أصول الاعتقاد، ويردُّون الأدلةَ السمعية التي تخالف الأصول التي أصَّلوها ردًّا بالتأويل أو الإبطال. وكانوا قد درسوا ما تُرْجِم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثةً بينهم وبين أتباعهم. وصاروا يتبجحون على مخالفيهم بأنهم لا ثقةَ بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية. فدخلت بذلك على الأمة فتنٌ في عقائدها، كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن، وتبعتها فتنةُ الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال، وغيرها.
فوجم أهلُ السنة وجمةً عضُّوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ؛ فرثَّ الإسلامُ من ناحية العقيدة رثَّةً استدعت رحمة الله بأهله وضمانه لحفظه لأن يقيض مَنْ يذبُّ عن السنة، ويزيف مذاهبَ أهل الأهواء بنصب أدلة من نوع ما موَّهوا به على الناس، وذلك هو إمام المسلمين الشيخ أبو الحسن الأشعري.
كان الشيخُ من أتباع مذهب الاعتزال، فأنهضه الله للذب عن السنة، وبَيَّنَ له سُقمَ كثير من أصول المعتزلة، فانبرى لتأييد العقيدة الإسلامية السنية. وكان انتقالُه إلى أتباع السنة منذ سنة ٣٠٠ هـ، وأخذ يدلل العقائدَ بالأدلة الفلسفية، ويُعَضِّدُ بِها الأدلةَ السمعية، فتم عمله في حدود سنة ٣١٠ هـ. وتوفي سنة نيف وثلاثمائة وثلاثين، وقيل سنة ٣٣٠ هـ ببغداد. فهو مجددُ رأس المائة الرابعة، ولا أجدرَ منه بهذه المزية من علماء ذلك القرن.
لا بأسَ على المسلمين بعد ذلك في أمور شرعهم واعتقادهم وسلطانهم، ولكن ما طلع القرن الرابع، ولاح ظلُّه حتى حدثت في الإسلام دول كثيرة، وادعى