كما أن المنشِئَ قد يستطرد الشيءَ لمناسبةٍ وتعلقٍ بالغرض، كذلك يلزمه سوقُ معانٍ غيرِ مقصودةٍ بالذات، ولكن المقصود هو ما تعطيه من النتيجة، وتُسمَّى حينئذ بالمقدمات. وبيان هذا يأتي عند الكلام على الخطابة لكثرة وقوعه فيها، وإنها تعرضنا له ها هنا؛ لأنه قد يقع في غيرها بأن لا يُفضيَ المتكلمُ إلى غرضه من أول وهلة، خشيةَ نفور النفس، أو عدم اتضاح المقصود. وعندي أن هذا من جملة ما يُفَرَّق به بين مقاماتِ الإطناب والإيجاز. ومنه ما يُسمَّى في فن البديع بحسن التعليل، وبحسن الاعتذار.
ومن الاستنتاج ما وقع في كتابٍ كتب به الجاحظ إلى محمد بن عبد الملك [الزيات] يستعطفه، ويطلب عفوَه عن زلة، قال:"أما بعد فإن كنتُ اجترأتُ عليك، فلم أجترئْ إلا لأن دوامَ تغافلِك عني شبيهٌ بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفوُ المتتابع يُؤْمِنُ من المكافأة. فإن كنتَ لا تهبُ عقابي لحرمة، فهَبْهُ لأياديك عندي، وإلَّا تَفْعَلْ ذلك فَعُدْ إلى حُسْنِ العادة، وإلَّا فافْعَلْ ذلك لِحُسن الأُحدوثة، وإلا فَأْتِ ما أنت أهلُه من العفوِ دون ما أنا أهلُه من استحقاقِ العقوبة. . ." إلخ (١).
(١) هذا الكلام من رسالة "التربيع والتدوير"، وقد أورده المصنفُ باختصار وتصرف تقديمًا وتأخيرًا، ولفظه مع الاقتصار على محلِّ الشاهد: "فإن قلتَ: فما أدخلَكَ في شيء هذه سبيلُه؟ وهكذا جوهرُه وطريقُه؟ قلتُ: لأني حين أَمِنْتُ عقابَ الإساءة، ووثقتُ بثواب الإحسان. . . ولو كان هذا ذنبًا لكنتَ شريكي فيه، ولو كان تقصيرًا لكنتَ سببي إليه؛ لأن دوامَ التغافلِ شبيهٌ بالإهمال، وتركَ التعريف يورث الإغفال، والعفوَ الشائع والبشرَ الدائم يؤمنان من المكفأة، ويذهبان بالتَّحفُّظ. ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان: عمر كان خيرًا لي منك، أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني. فإن كنتُ اجترأتُ عليك، فلم أجترئْ عليك إلا بك، وإن كنتُ أخطأتُ فلم أُخطِئْ عليك إلا لك؛ لأن حسنَ الظن بك والثقةَ بعفوك سببٌ إلى قلة التحفظ، وداعيةٌ إلى تركِ التَّحَرُّز. . . وإن كنتَ لا تَهبُ عقابي لحرمتي، فهَبْهُ لأياديك عندي، فإن النعمةَ تشفع في النعمة. فإن لم تَفعلْ ذلك للحرمة، فافْعلْه لحسن الأُحدوثة، وعُدْ إلى حسن العادة فَأْتِ ما أنت أهلُه". الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب: رسائل الجاحظ نشرة بعناية محمد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٢٠/ ٢٠٠٠)، ج ٢/ ٣، ص ٥٥ - ٥٦.