قدم مقدمة في أن الإسلام دعوة لخير البشر كله، ورابطة لهم في أقطار الأرض، وأن الله اختار ظهورَه بين العرب لحكمة، وأن أول من اجتمع حوله هم العرب على تخالف شعوبهم. وهي مقدمة صحيحة مسلمة، إلا أنه استنتج منها ما لا يلاقيها فقال في صحائف ٨٣ إلى صحيفة ٨٩:"إن هاته الوحدة العربية لم تكن سياسية، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغير شيئًا من أساليب الحكم عندهم ولا مما كان لكل قبيلة من نظام إداري وقضائي، ولا عزل واليًا ولا عين قاضيًا، بل ترك لهم كلَّ الشؤون وقال: "أنتم أعلم بها"، وإن ما اشتملت عليه الشريعةُ من أنظمة العقوبات والجيش والبيع والرهن ليس في الحقيقة من أساليب الحكم السياسي ولا من أنظمة الدولة، وهو إذا جمعته لم يبلغ جزءًا يسيرًا من لوازم دولة، وإنما هو شرع ديني خالص لله ولمصلحة البشر، وإن العرب مع دخولهم تحت جامعة الإسلام بقوا دولًا شتى بحسب ما اقتضته حياتُهم بخضوع العرب للنبي خضوعَ عقيدة لا خضوع حكومة. فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - أوشكت أن تنقض تلك الوحدة العربية وارتد أكثر العرب إلا أهل المدينة ومكة والطائف. وقد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يشير إلى شيء يسميه دولة ومن غير أن يسمي أحدًا يخلفه".
وأقول ليس الحق ما ذكره، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام للناس أمر دنياهم، إذ المقصود من الدين صلاحُ العاجل والآجل، ولا يتم صلاحُ العاجل إلا بإقامة مَنْ يحمل الناسَ على الصلاح بالرغبة والرهبة. وقد نص القرآن على ولاية الأمر فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: ٥٩].