للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا جَرَم أن دين الإسلام قد شرعه الله شرعًا تدريجيًّا، فابتدأ يدعو الناسَ لأصول الصلاح بتطهير النفس، وذلك بإعلان التوحيد وآداب النفس من العبادات والأمر بالعدل. فلما تهيأت النفوسُ لقبول الشريعة، أخذ التشريعُ ينمو حتى بلغ أوسعَ تفاريعه، فكان في هذا التدرج حكمةٌ إلهية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: ٣٢].

وإذا علمنا أن الإسلام شرع أوجب على الناس التعامل بأحكامه فغير عوائدَهم، وقمع المعاندين من رؤسائهم، وتركهم مسلوبي السلطة، وعوضهم برؤساء وأمراء وقضاة من متابعيه، وهذا مما لا يرتاب فيه مَنْ له اطلاعٌ على الحديث والسيرة والتاريخ، فقد وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراءه إلى الجهات التي أسلم أهلها من بلاد العرب، وقرر من قرر من أقيال (١) اليمن على ما بأيديهم حين أسلموا، على أنهم قائمون مقام أمرائه كما فعل مع وائل بن حجر قَيْل حضرموت وجعله رئيس أقيال بلاد اليمن.

وقد قدمنا فيما تقدم من المباحث أن مظاهر الدولة كلها متوفرةٌ في نظام الشريعة الإسلامية، وأعظمُها الحرب والصلح والعهد والأسر وبيت المال والإمارة والقضاء، وسن القوانين والعقوبات إلى أقصاها وهو الإعدام، بحيث لم يغادر شيئًا مما يلزم لإقامة نظام أمة بحسب العصر والقوم، وما ترك من التفاصيل التي لم يدع إليها داعٍ يومئذ إلا وقد أسَّس له أصولًا يمكن استخراجُ تفاصيله منها، كما هو معلوم من علم أصول الفقه، وهو معنى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨]، على ما بينه الشاطبي في الموافقات (٢).


(١) أقيال، جمع قَيْل، لقب كان يُطلق على الملك من ملوك حمير، ويُجمع كذلك على قُيول.
(٢) قال في أول كتاب الأدلة: "لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكانت هذه الوجوه مبثوثةً في أبواب الشريعة وأدلتها، =

<<  <  ج: ص:  >  >>