للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تُقدَّم النتيجةُ على مقدماتها، فيُؤتَى بها حينئذٍ كالأدلة، وذلك إذا كان المخاطَبُ غيرَ متوقَّع نفورُه: إما لإنصافه، أو لطاعته للمتكلِّم، أو نحو ذلك، كما تراه في كتابٍ كتَبَ به أبو بكر الخوارزمي لتلميذه يؤنِّبُه على المكابرة، وهو قولُه: "بلغني أنكَ ناظرتَ، فلما توجهتْ عليك الحجةُ كابرت، ولما وُضع نِيرُ الحق على عنقك ضجرتَ وتضاجرت. وكنتُ أحسب أنك أعرفُ بالحق من أن تعُقَّه، وأهيبُ لحجاب العدل والإنصاف من أن تشُقَّه. كأنك لم تعلم أن لسانَ الضجر ناطقٌ بالعجز، وأن وجهَ الظلم مبرقَعٌ بالقبح، وأنك إذا استدركتَ على نقد الصيارفة، وتتبعتَ خطَأ الحكماء والفلاسفة، فقد طَرَّقْتَ إلى عيبك لعائبك، ونصرتَ عدوَّك على صاحبك. وقد عجبتُ من حسن ظنك بك، وأنتَ إنسان، [والله المستعان] ". (١)

فحَسُنَ في هذا المقام إفضاؤه إلى الغرض، ثم إتيانُه بما من شأنه أن يكون مقدمةً بمنزلةِ الدليل، كما يظهر بالتأمل.

[مقامات الكلام]

قد عرفتَ في علم البلاغة أن مقاماتِ الكلام متفاوتة، وليس هذا جُلَّ غرضنا هنا؛ لأننا لا نحب أن ننقلَ علمًا إلى آخر، وإنما نبحثُ هنا عن مقامات الكلام التي لها مزيدُ اختصاصٍ باختلاف أساليب الإنشاء. ومِلَاكُ ذلك يرجع إلى نَباهةِ المتكلِّم في ترتيب أداء المعنى بحسب حال المخاطب وعلاقته بالواقع؛ فإن مسألةَ ضروبِ التراكيب المذكورة في البلاغة لا يُنظرُ فيها إلا إلى حالِ المخاطَب، كما أن أحوالَ التقديم والتأخير والحذف والقصر والإيجاز يُنظرُ فيها إلى حالِ المخاطَب مع علاقته بالخارج.

ويُشْبِهُ أن يكون حالُ المخاطَب وارتباطُه بالخارج مرجِعَ اختلافِ مقاماتِ الكلام كلِّها. وذلك ينضبط فيما يظهر لنا من أربع جهات: ترتيب المعاني المدلولة، وطرق الاحتجاج، وطرق الدلالة، وكيفية المعنى من جزالة أو رقة أو سهولة.


(١) الخوارزمي، أبو بكر: رسائل أبي بكر الخوارزمي (قسطنطينية: مطبعة الجوائب، ط ١، ١٢٩٧)، ص ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>