للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما ترتيبُ المدلولات فالأصلُ فيه أن يكونَ على حسب حصولها، وتفرع بعضها عن بعض. فإن كان الكلامُ خبرًا، فالنَّظَرُ إلى الحصول في الخارج، فيُحكى على ترتيبه الطبيعي، نحو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)} [هود: ٧٧]. فإن مدلولاتِ هذه الجمل تحصُلُ في الخارج على نحو هذا الترتيب؛ إذ أولُ ما تحصل الإساءة في النفس، ثم فراغ الصبر، ثم التضجُّر بالقول.

وإن كان إنشاءً، فالنظرُ إلى ترتيبِه بحسب حصولِ مدلوله عند الامتثال. وقد يتعين هذا، كما في حكاية الأخبار المحزِنة؛ فإن حكايتَها على ترتيبِها الطبيعي يهيِّئُ النفسَ لتلقِّيها، كما يهيئها لذلك حصولُها في الواقع تدريجا. فإنك لو رُمتَ الإخبارَ بوفاةِ مَنْ تَرُوعُ المخاطَبَ وفاتُه، لرأيتَ أن حكايةَ مرضِه وأطواره، ثم وقوعِ اليأس من شفائه، ثم الخبر بموته، أهونُ في النفس مما لو فُوجِئَتْ بالإخبار بموته.

وقد يُخالَفُ مقتضى الظاهر، كتقديمِ ما شأنُه التأخيرُ لغرض، مثل تعجيلِ المسرة، أو قطع نزاع المنازع قبل أن يلجَّ في الخصومة فيكابر ولا يرجعَ إلى الحق، أو للتنبيه على المقصود، مثل الافتتاح بدعاء مناسب أو نحوه. ويُسَمَّى براعةَ الاستهلال، كقول بعض الكتاب التونسيين يخاطب رئيسَ ديوان الإنشاء في الدولة الصادقية متشكِّيًا من بعض أهل الشوكة: "سيدي! نفوسنا تفديك، والله تعالى من سلطة أهل الوظائف بدون استحقاق يقيك" (١)، وقول الحريري في جواب الذي جاوبَ أبا زيد السروجي حين وقف له موقفَ الزائر المسترفد:

وَحُرْمَةِ الشَّيْخِ الَّذِي سَنَّ الْقِرَى ... وَأَسَّسَ المَحْجُوجَ فِي أُمِّ الْقُرَى (٢)

يريد إبراهيم - عليه السلام -.


(١) لم يتهيأ لي الاطلاع على الوثيقة التي نقل منها المصنف هذا الكلام.
(٢) الحريري: مقامات الحريري، ص ٥٢ (المقامة الكوفية).

<<  <  ج: ص:  >  >>