وبعد فحقٌّ علينا أن نبين من حكمة الله تعالى في هذا الحوار الذي جرى بين أصحاب رسول الله بمرأى منه ومسمع، وفي عزمه على الكتابة ثم إعراضه عنها.
الحكمة الأولى: أن عزم الرسول عليه الصلاة والسلام كان مثالًا عظيمًا لمقدار حرصه على أمته ورأفته بهم، ومحبته الخير لهم إلى آخر ساعات بقائه بهذه الحياة الأولى، فكان - عليه السلام - غير مفيت لحظة من لحظات تمكنه من الإرشاد استكثارًا لهم من الخير، واحتياطًا في تجنيبهم مواقع الفتن. وإن الاعتبار في ذلك يزيد أمته حبًّا فيه، وتعظيمًا لقدره، فيكثرون من الصلاة عليه، وسؤال الله أن يجازيه أحسن ما جازى نبيًّا عن أمته، فيعود ذلك على الأمة بخير عظيم.
الحكمة الثانية: ما حصل من التشاور والاجتهاد في الأمر بين أصحابه بحضرته، فإن ذلك مشهد يسر الرسول بما يرى من تلقيهم الأدلةَ النظرية بجواذب أفهامهم، وأنهم لا يألون جهدًا في العمل بمختلف الأدلة من سوابق أقوال رسولهم ولواحقها.
الحكمة الثالثة: أن رأى مقدار تمسكهم بالقرآن، إذ لم يختلفوا في أن القرآن حسبهم، ولا في أن هذا الكتاب لا يقوم مقام القرآن، وإنما اختلفوا في شدة الحاجة إلى بيانه وعدم شدتها، وفي إيثار راحة الرسول، وسد ذريعة الشك في الدين وعدم ذلك.
الحكمة الرابعة: أن كان مظهرًا من مظاهر رأفة الصحابة بنبيهم، وتطلب ما فيه راحته من الكلف والمتاعب، فإذا كانوا بتلك المثابة في شؤونه الجسدية، أفلا يكونون أحرصَ الناس على حصول اطمئنان نفسه الزكية بعد وفاته في تمسكهم بشرعه ووصاياه؟
الحكمة الخامسة: أن سكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سماعه كلام عمر بن الخطاب فيه إقرارٌ لرأيه، وإيماءٌ إلى أنه ممن يُعوَّل على اجتهاده في مضايق الأمة،