للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبذلك ينكشف الوجه الثامن من وجوه الإشكال.

وأما قول بعض الحاضرين: "أهَجَر؟ "، فقد روي بهمزة الاستفهام وبدونها. قال المازري: "النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من أن يكذب على الله عز وجل أو يفسد ما يبلغه عنه، وهو مع هذا غيرُ معصوم من الأمراض وما يكون من بعض عوارضها مما لا يعود بنقص في منزلته، ولا فساد فيما مهد من شريعته. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُحر يُخيل إليه أنه عمل الشيء وما عمله، ولم يجر ها هنا منه - عليه السلام - من الكلام ما يُعَدُّ مناقِضًا لما قدَّم من الأحكام والشرائع، ولا الكلامُ في نفسه دالٌّ على الهذيان الذي يكون عن الحميَّات". (١)

يريد المازري بكلامه هذا أننا لو سلمنا أن يكون قول القائل: "أهجر؟ " معناه أقال كلامًا غير مراد له، لم يقدح ذلك في تقرر عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم، ولم يوجب طعنًا في قائل هذا الكلام. وقد حقق عياضٌ في الإكمال هذا المقامَ بقوله: "إنما جاء هذا من قائله عن طريق الإنكار على القائلين: لا تكتبوا. يريد هذا القائل: كيف تتركون أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجعلونه كأمر مَنْ هجر في كلامه؟ أي وذلك لا يُظن بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالصورة صورة الاستفهام، والمعنى على النفي المحض". (٢)

وتحصل من مجموع كلامَي الإمامين أن القرينة قائمة على قصد إنكار أن يكون قال هجرًا. ويدل لذلك أن عمر لم يُنقل عنه أنه رد على هذا القائل، بل إنه توقف عن الزيادة في الامتناع من طلب الكتابة، وعدم موافقة الراغبين فيها. وقد اندفع الوجهُ التاسع من وجوه الإشكال، وانجلى ما تسابقت فيه فرسانُ ذلك المجال.


(١) المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج ٢، ص ٢٣٤. وقد أورد المصنف كلام المازري بتصرف واختصار وسقناه كاملًا. وللمازري بعد ذلك كلام مهم من المفيد جلبه هنا: "وقد بقي كثير من الأحكام عظيم خطرها في الشرع غير منصوص عليها، ولكنه نص على أصولها ووكل العلماء إلى الاستنباط فيقول كل إنسان منهم بقدر ما يظهر له".
(٢) اليحصبي: إكمال المعلم، ج ٥، ص ٣٧٩ - ٣٨٠ (وقد أورد المصنف كلام عياض بتصرف يسير).

<<  <  ج: ص:  >  >>