لا سبيلَ إلَى إبطال الاشتراك، ولا غايةَ من ذلك. فإن جميعَ اللغات مملوءةٌ بالتسامح والمجاز ونحوه، ولا ضيرَ في ذلك مع الاعتماد على القرائن. ولكن سبيلنا أن نزيِّف اعتقادَ كون الاشتراك جاء من أصل الوضع، وأن نسعى في تقليله من قواميس اللغة بقدر الإمكان، ونعوضه بنزع بعض الألفاظ المترادفة ووضعها لبعض معاني الألفاظ المشتركة. إذ ما من لفظٍ مشترك إلا ولبعض معانيه لفظٌ آخر مختصٌّ بذلك المعنى، فيصير بهذا الاعتبار مترادفًا. فتعين للنهوضِ باللغة أن نعالِجَ هذه الآثار، ويسعُنا ما وَسع العربَ فيما حاولوه من الفروق.
الوسيلة الأولى: يجب أن نسعى إلى تأليف قاموس تُحَقَّقُ فيه معانِي الألفاظ التي يتراءى لنا أنها مشتركة، فنبين عروض الاشتراك لها من الاستعمال لا من الوضع، أو من توسع المستعملين لا من حق الاستعمال، لنرفع بذلك الملامَ عن واضعي اللغة؛ وذلك بأن نُرجِع الألفاظ المشتركة إلى الأنواع التي ذكرناها آنفًا في أسباب وقوع الاشتراك. وهذا يدفعنا إلى التنقيب عن أصول الكلمات ومساربها، وهو ما تعرو منه قواميسُنا الآن في غالب موادها.
وقد أحس بالحاجة إلى هذه الوسيلة بعضُ المحققين من أئمة اللغة، فقد تكلم أبو الفتح ابن جنّي في كتاب "الخصائص" على نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، وورود بعضها بمعنى بعض، فقال:"لا سبيلَ إلى إطلاق القول فيه؛ لأنه يفضي إلى إفساد الكلام، ولا وجهَ لإنكاره مع وروده في الكلام الفصيح". (١) وبين أن العرب
(١) ساق المصنف كلام ابن جني بتصرف واختصار كبيرين، ولفظه (كما جاء في باب استعمال الحروف بعضها مكان بعض): "هذا بابٌ يتلقاه الناسُ مغسولًا ساذَجًا من الصنعة، وما أبعدَ الصواب عنه وأوقفَه دونه. وذلك أنهم يقولون: إن (إلى) تكون بمعنى مع، ويحتجون لذلك بقول الله سبحانه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: ٥٢؛ الصف: ١٤]، أي مع الله. ويقولون: (في) تكون بمعنى على، ويحتجون بقوله عز اسمه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: ٧١]، أي: عليها. ويقولون: =