بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد،
فلئن كان شعرُ النابغة محطًّا لهمم أئمة اللغة والأدب، لقد كان جمعُه بمنأى عن متعارَف جهودهم. إن شعره بالمنزلة العليا فصاحةَ لفظ، وبلاغةَ تركيب، وشرفَ معنى، وتباعدًا عن الضرورات وعن ضعف التأليف. وإنَّ فيه لَوصفَ أحوالٍ كثيرة من أحوال العرب، وعاداتهم، وديارهم، وأيامهم، وحياة عامتهم وملوكهم، مما خلا عنه شعرُ غيره مِمَّنْ سبقه وعاصره. فشعرُ النابغة مَوْلَجٌ للذين يهمهم الاطلاعُ على شؤون العرب في آخر عصر الجاهلية؛ إذ كان النابغةُ مرجعَ فصاحتهم، وموئلَ ذوي الحاجات منهم، لما له من الوهاجة لدى ملوك العرب وسادتهم؛ لأنه كان صاحبَ الرأي فيهم. فكان واسطةً لديهم في شؤون خطيرة لقومه وجيرتهم، وقد تغلغل في منازل ملوك غسان بالشام، وملوك اللخميين بالحيرة.
وكان الشأنُ أن يتوفَّر اهتمامُ أئمةِ الأدب الأقدمين بجمع ما يُروَى من شعر النابغة، كدأبهم في شعر نظرائه، ولا سيما وهو أقربُ عصرًا إليهم من كثيرٍ من شعراء الجاهلية الذين جُمعت دواوينُهم.
(١) ديوان النابغة الذبياني، جمع وتحقيق وشرح الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (تونس: دار سحنون/ القاهرة: دار السلام، ط ١، ١٤٣٠/ ٢٠٠٩، مصور عن نشرة الشركة التونسية للتوزيع، بدون تاريخ)، ص ٥ - ٢٣.