للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فطرة الله (١) {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}

قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠)} [الروم: ٣٠]. كلَّما لَمَحَ آياتِ القرآن قارئُها المتبصر وتدبرها حقَّ التدبر، وجد فصاحةَ إعجازه الدالِّ على أنه ليس من مألوف كلام البشر ساريةً في كل ما يحتويه مما له دلالةٌ على مقدار من معاني الكلام البليغ، سواء كان جملًا تامة الإفادة، أو تراكيبَ مكملةً إفادةَ ما معها، أو روابطَ تَشُدُّ بين كلماتِه وتراكيبه عُرى الالتئام، فتكون للكلام كالسلك للعقد النظيم، أو القالب الذي يفرغ فيه الذهب الكريم. فبهذه المثابة، وعلى هذا النعت، نجد موقعَ الفاء التي افتُتِحت بها هذه الآيات. تلك هي الفاء التي يسميها علماءُ العربية فاءَ الفصيحة، ويحق لها هنا أن يَقال لها الفاء الفصيحة. (٢)

وفاءُ الفصيحة هيَ التي تقع بعد كلامٍ يفيد غرضًا من الأغراض، فتُوزَن بشيء مقدَّر، كشرطٍ تكون تلك الفاءُ رابطةً لجوابه لقصد الإيجاز، فيقدر هنا إجمالًا: إذا علمتَ ما قيل لك، فأقِمْ وجهَك للدين حنيفًا. وقد يكون المقدَّر غيرَ شرط في كلام آخر؛ ذلك أن الآياتِ السابقة تحوم حولَ إثبات أن الله واحد في الألوهية، وأنه


(١) اعتمدنا في ضبط نص هذه المقالة على كتاب "تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة" بعناية نجل المصنف الأستاذ عبد الملك ابن عاشور عليه رحمة الله، كما رجعنا إلى ما كتبه المصنف في هذا الشأن في "تفسير التحرير والتنوير" و"مقاصد الشريعة الإسلامية" و"أصول النظام الاجتماعي"، لاستكمال نقص أو تصويب خطأ. وقد وضعنا ما جلبناه من الكتب المذكورة بين حاصرتين.
(٢) فاء الفصيحة هي الفاء التي يؤتَى بها للترتيب والتعقيب، وتدلّ على أن في الكلام محذوفًا، ولكن المعنى واضح، أو هي التي تُفصح عن جوابِ شرطٍ مقدر وتقع في أول الكلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>