للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عائشة في حديثها: "وكان النساء يومئذ خفيفاتٍ لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقة (١) من الطعام". (٢) ولقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتمم مكارم الأخلاق، فكان مفطورًا على ما فُطر عليه قومه من قلة الطعام وقلة الاحتفاء به، فلا جرم أن كان في نبوته يزيد اقترابًا من هذا الخلق الجليل، ولقد رُوي عنه أنه كان يعجبه قولُ عنترة:

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... كَيْمَا أَنَالَ بِهِ لَذِيذَ المَأْكَلِ (٣)

فقال: "ما وُصِفَ لِي أعرابِيٌّ فأحببت أن أراه إلا عنترة" لقوله: "ولقد أبيت على الطوى" إلخ. (٤) هذا وأراد عنترة بقوله: "لذيذ المأكل" قضاء أوطاره التي تتوجه إليها همته، على طريق المشاكلة.

[المدد الروحاني]

إن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوتين: قوة ملكية وهي الغالبة عليه، وهي قوة الروح المشبعة بالنبوة المزال منها حظوظ الشيطان، كما أنبأ عنها حديث شق صدره الشريف وإزالة المضغة التي هي حظ الشيطان منه، وقوة بشرية وهي قوة جبلته وفطرته التي فطره الله عليها بشرًا سويًّا وهي أضعف قوتيه. وإن شئت فقل: إن القوة الأولى هي القوة المجددة عليه بالنبوة والمتزايدة في مراقي الرفعة، والقوة الثانية هي البقية الباقية من الفطرة التي أذابتها أشعة النبوة فلم تبق منها إلا ما تتوقف سلامة الهيكل الإنساني عليه بحسب الفطرة التي اقتضتها حكمة الله في تركيب المزاج، بقاعدة "لا تبديل لخلق الله"، بحيث لو أنزلت إلى ما دونها لاضمحل منه


(١) ما يُتبَلَّغ به من العيش. - المصنف.
(٢) جزء من رواية عائشة لقصة حديث الإفك ولفظه: "وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يُهبلهن ولم يغشهم اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام". صحيح البخاري، "كتاب المغازي"، الحديث ٤١٤١، ص ٧٠٢.
(٣) ديوان عنترة، ص ٢٤٩ (وفيه "كريم" بدل "لذيذ").
(٤) الأصفهاني: الأغاني، ج ٣/ ٨، ص ٣٨٦. وفيه جاء في البيت لفظ "كريم" بدل "لذيذ".

<<  <  ج: ص:  >  >>