للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحكمة منه تعالى حتى لا يحتاج الحيوان إلى أمر ونهي يحملانه على تبادل (١) ما فيه بقاؤه. فمن عرف حكمة الله في ذلك، علم أن الأكل لإقامة قوام الحياة وبقاء الهيكل والنوع، ومن لم يعرف ذلك سعى إليه لما فيه من اللذة أو الخلاص من الألم غير عالم بما في ذلك من المصلحة والحكمة، فحصلت الحكمة على غفلة منه، فهو يسعى لخير عظيم ولا يدري، ولذلك قال الحكيم لبعض الأغمار: أنت تعيش لتأكل، وأنا آكل لأعيش. قال عياض في الشفاء: "لم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلة الطعام وتذم كثرته؛ لأن كثرة الأكل دليل على النهم والحرص وغلبة الشهوة، جالب لأدواء الجسد وخثارة النفس، وقلته دليل على القناعة وملك النفس وقمع الشهوة، مسبب للصحة وصفاء الخاطر وحدة الذهن، وفي الحديث: "ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شرًّا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم آكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". (٢)

ثم إن بين الأمم في حال تناول الطعام تفاوتًا بحسب توزع اهتمام الهمم نحو تناول الملاهي واللذات الدنيوية، وما للنفوس من إجمام وإقلاع كما يقول المثل: "كل امرئ يأكل زاده". والعرب كانوا أقلَّ الناس عنايةً بالطعام؛ لأن همتهم كانت منصرفةً إلى الفروسية والنساء والشراب والميسر. وربما كانوا يعدون الأكل من اللذات التي تنبو عنها المروءة، فكانوا يتركون مآكل كثيرة. وربما يروا بأكل ما يسيل من الفم، كما عيروا قريشًا بأكل السخينة، (٣) حتى بلغ الأمر ببعض أهل المروءة منهم أنه تغدى على حافة غدير ماء فحانت منه التفاتةٌ إلى الغدير فرأى هيئة الآكل في الغدير، فاشمأز من ذلك المرأى وترك الأكل حتى مات جوعًا. وقد قالت


(١) كذا في الأصل، ولعل الأولى أن يقال: تناول.
(٢) عن مقدام بن معدي كرب، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه. فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث ٢٣٨٠، ص ٥٦٦.
(٣) طعام رقيق يتخذ من دقيق. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>