للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مكان شعر بشار من حفظ التاريخ في الجاهلية والإسلام]

لقد عرفتُ شعرًا كثيرًا لشعراء العرب في الجاهلية والإسلام، وعُنيت بتتبع ما في خلاله من أحوال العرب وتاريخهم، فما رأيت شاعرًا أوفَى ذِكرًا لها وإشارة إليها مثل بشار. ذلك أن شعراء الجاهلية ما كانوا يحتفُون بذكر أحوال حياتهم ومعتقداتهم عدا أحوال الغرام والضيافة والحرب؛ لأن تمَثل تلك الأحوال نُصْبَ أعينهم يجعلهم يستسمحون الحديث عنها لرواة أشعارهم، إذ يرونه من الإخبار بالمعلوم، وقد قفى على أثرهم في ذلك شعراء العصر الأول الإسلامي، أمثال ذي الرمة والعجاج والفرزدق، وجرير، لقربهم من بداوة شعراء الجاهلية ولاشتغالهم بأبواب الهجاء من الشعر.

وقد كانت نشأةُ بشار عقب ذلك في عصر طُوِيَ فيه بساطُ الحياة الجاهلية، وشبّ في النفوس الوَلَعُ بأخبار العرب وحال حياتهم، ليكون ذلك عَونًا لهم على فهم أدبهم. وكان بشار أولَ مَنْ نشأ على معرفة أحوال العرب، وأدرك بقيةً من حياتهم في مواليه بني عُقيل حول البصرة، وملأ وِطابَه من محض أدبهم كما قدمناه. وقد خوّله تغلغلُه بينهم معرفةَ خَفِيِّ أحوالهم ومشهورها وتلقن أخبارهم المحفوظة على ألسُن بقيتهم، فكان في ذلك مثل ابن القِرِّيَّة وفوق الأصمعي، فبعثه وَلَعُه بهم


= عالم بالقراءات، من أهل تازة. ولي رياسة ديوان الإنشاء فيها. من كتبه "الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع"، أرجوزة في القراءات. أما اللبلبي فهو أبو جعفر أحمد بن أبي الحجاج يوسف بن علي ابن يوسف الفهري، ولد في مدينة لبلبة بغرب الأندلس، وإليها ينسب. اختلف في تعيين سنة مولده فقيل ٦١٣ هـ، وقيل ٦١٠ وقيل ٦٢٢، والراجع التاريخ الأول. بدأ حياة الطلب في مسقط رأسه، ثم رحل إلى إشبيلية فأخذ على مشاهير علمائها وفي مقدمتهم العالم اللغوي البارع أبو علي الشلوبين. ولسوء الأحوال السياسية في الأندلس غادرها اللبلبي في رحلة طويلة فطوف ببلاد المغرب وبجاية (بالجزائر) وتونس ثم يمم وجهه شطر المشرق إلى الإسكندرية ومصر (القاهرة) والشام والحجاز، فأخذ عمن لقي من بهذه من العلماء. ثم عاد من رحلته المشرقية وحط رحاله بتونس فأقرأ بها حتى وفاته في شهر المحرم من عام ٦٩١ هـ، مخلفًا وراءه سمعة عالية وتلاميذ كثيرين، ومؤلفات عديدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>