فذلك كلُّه عيَّن عندي أن يكون مالكٌ مجددَ أولِ القرن الثاني، وأرى أنه لم يشاركه أحدٌ في تجديد أمر الدين من ناحية لحقت الدين منها رثاثة. فطريقةُ مالك رحمه الله هي التي كانت الطريقَةَ المثلى للتمييز بين الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذهب بها جُفاء ما طرأ على الرواية من الخلل. وقد أصبحت تلك الطريقة مسلوكة إلى يومنا هذا، فهو مجددُ طريقة، وأصلٌ عام في التحمل.
[[المائة الثالثة]]
وما فرغ المسلمون من علم قواعد التحمل، ومعرفة المقبولين والضعفاء والمدلسين، حتى طفحت الرواياتُ عليهم من كل مكان: فمن صحيح وعليل، وأصيل ودخيل، فأصبح الناسُ في حيرة في مقام التمييز، لاحتياجه إلى علاج بوسائل القواعد، وذلك على الناس عزيز. فكانوا بحاجة إلى تدوين كتاب يجمع صحاحَ الآثار في كل نوع من أنواع التشريع، ويدحض ما عداها، فكان محمد بن إسماعيل البخاري للأمة شمسَ هداها؛ إذ ألف الجامع الصحيح فاطمأنت نفوسُ المؤمنين، وألغوا كل معروف بالوضع وكل ظنين.
كان ابتداءُ ظهور عمل محمد بن إسماعيل البخاري في مبتدأ القرن الثالث من يوم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته تلك، أعني في حدود سنة ٢١١ هـ. وقد كان هذا التجديد لناحية من الرثاثة في الدين، وهي رثاثةُ التساهل في الحديث من حيث جزئيات الأحاديث، لا من حيث الأصلُ الكلي. فذلك وجهٌ غير الذي لمالك، وإن جرى على أصل مالك؛ لأن البخاري جدد طريقةَ تمييز أعيان الأحاديث، ومالكًا جدد طريقةَ تأصيل قواعد الأخذ للسنة، وتخريج الأحاديث التي هي أصولٌ للتفقه في الدين من صحيح الآثار.
هكذا مضى المسلمون آمنين في طريق نقل الآثار الشرعية، ومسالك التفقه في الدين والتفريع فيه؛ فظهر الحقُّ من الباطل، واستبانت السننُ من الابتداع. فكان أهلُ السنة وأهلُ الحق غالبين مَنْ يغالبهم من أهل الأهواء والبدع الذميمة، وكان