للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اتفق العلماءُ من أهل عصره على تأويل ما روي عن رسول الله بروايات متقاربة في سنن الترمذي، وكتاب النسائي، ومسند أحمد بن حنبل ومستدرك الحاكم ومسند الشافعي من قوله: "يوشك أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل في طلب العلم، فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"، (١) أنه إشارة إلى مالك بن أنس، قال بذلك سفيان بن عيينة، وابن مهدي، ويحيى بن معين، وابن المديني، وجمع كثير.

ثم إن ما بلغه مالك من توقير خلفاء الدولة العباسية، وبرِّهم إياه، ووقوفِهم عند نصائحه، مع ما كان له من شدةٍ على المتساهلين في الحديث وتلقي السنة، قد أعان على نفاذ أصوله في تحمل الحديث، ومكَّنه من التقريع والتأديب لكل مَنْ يبلغه من المتساهلين والمبتدعين وأهل الأهواء. وحسبُك أن المنصور أبا جعفر قد همَّ همًّا قويًّا بأن يأمرَ الناسَ في أقطار الإسلام باتباع ما في الموطأ دون غيره؛ (٢) فانثال الناسُ على الأخذ عن مالك.

وقد اختص بأشياء لم تتأت لغيره: وهي التعمير، وكثرةُ الآخذين عنه، وتفرقُهم في سائر الأمصار، وإعلانُه بطريقته، وتزييفُ الطرائق المخالفة لها، واجتماع إمامة الفقه والحديث فيه. وهذه صفاتٌ لم يشاركه فيها غيرُه ممن كان يدانيه في صحة الرواية مثل يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي، مع شدته في متابعة أصوله، لا ينحرف عنها قيد أنملة. ولأجل تخليد عمله، وتخطيط طريقه، ألَّف كتاب الموطأ، وهو أول كتاب أُلِّف في الإسلام.


(١) سنن الترمذي (وشرح العلل)، "أبواب العلم عن رسول - صلى الله عليه وسلم -"، الحديث ٢٦٨٠، ص ٦٣١ (ولفظ الترمذي: يطلبون العلم). قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن، وهو حديث ابن عيينة. وقد رويَ عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل مَنْ عالِمُ المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس. وقال إسحاق بن موسى: سمعت ابنَ عيينة قال: هو العمريُّ الزاهد عبد العزيز بن عبد الله، وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. والعمريُّ هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب". وانظر كذلك الحاكم النيسابوري: المستدرك، "كتاب العلم"، الحديثان ٣٠٧ - ٣٠٨، ج ١، ص ١٥٧ - ١٥٨.
(٢) انظر قصة ذلك مع تباين في رواياتها في تعيين الخليفة أهو المنصور أم المهدي في: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج ١١، ص ٦٥٩ - ٦٦٠، اليحصبي: ترتيب المدارك، ج ١، ١٩٢ - ١٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>