للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا صفر (١)

جُبل الإنسانُ على تطلب المعرفة والاتسام بمسيم العلم، فهو متعلِّمٌ وعالِمٌ ومُعلِّم بطبعه. لذلك ترى الطفلَ يسأل عن كل ما يراه ويسمعه، ويحاول أن يُرِيَ رفيقَه كلَّ ما يلوح له من أمر مستغرب، ويعرفه بكل ما وصل إليه علمُه وإدراكه.

وشأنُ الأمم في جهالتها الأولى أو العارضة لها عن تدهور من أوج الهداية إلى حضيض الضلالة أن تنتحلَ لأنفسها معارفَ مخلوطة بين حق وباطل، تعلل بها تعطشها إلى العلم. وغالب ذلك هو من وضع أهل الذكاء منهم الذين لم يقدر لهم صقل ذكائهم بالمعارف الحقة، فهم بذكائهم الفكري تنعكس حركةُ عقولهم على نفسها، فتخترع من تخيلاتها وأوهامها ما يحسبونه علمًا، ويشيعونه في طهماء (٢) القوم عن غرور وغفلة أو عن دهاء وحيلة، ليقتعدوا بذلك مراقيَ القيادة والزعامة.

ولذلك لا تجد أمةً يَخلو تاريخُ علومها من الابتداء بعلوم وهمية وخرافية تكون هي قصارى علومها قبل نهوض حضارتها، ويتفاوتون في تنظيمها تفاوت عقولهِم في الاختراع.

فقد كان للكلدان خرافاتٌ من عبادة الكواكب وأرواحها، وكان للمصريين خرافاتٌ في أحوال الموتى والموجودات المقدسة، وكان لليونان خرافاتٌ في أحوال الآلهة والأبطال. فإذا ارتقت تلك الأممُ وتواضعت (٣) العلوم الصحيحة، بقيت بقايا من العلوم الوهمية عالقةً بعقول الطائفة التي حظُّها من المعارف الحقة قليلٌ أو معدوم.


(١) المجلة الزيتونة، المجلد ١، العد ٨، صفر ١٣٥٦/ أفريل [أبريل] ١٩٣٧ (ص ٣٨١ - ٣٨٥).
(٢) لعل الصواب: دهماء القوم، أي: عامة الناس وسوادهم.
(٣) يبدو أن المصنف استخدم فعل تواضع هنا بمعنى استقام واستقر.

<<  <  ج: ص:  >  >>