للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شبيهًا بقطارٍ نُظِمَ من مُرْتَاضَ الشوارد (١)، وجاء أولَ إملاءٍ فيما علمتُ ظهر به فنُّ الإنشاءُ مهذَّبًا ممتازًا عما سواه. ومَنْ خَبَرَ ما سلفَ من كتبه علمَ قيمةَ ما صنعنا، وكيف تتبعنا مواقعَ القطر فانتجعنا.

وكان العزمُ معقودًا على أن نعودَ إلى تلك الأمالي فنهذِّب ديباجَها (٢)، ونعالج مزاجَها، فحالت دون ذلك شواغل، وصرفت الذهنَ خصومٌ ونوازل (٣)، إلى أن اشتدت حاجةُ الراغبين في تعلم الإنشاء إلى كتاب يبين طرائقَه، ويدنِي لجانيه حدائقَه. فرأيتُ من اختلاف طرق المزاولين وتعطشهم لكتاب مذكِّر أو معين ما حدانِي إلى أن نفضتُ عنها عُثَّ (٤) الهِجران، وأمطتُ عنها عناكبَ النسيان. ورجائي من أهل الأدب ورواته وأطباء اللسان وأساته، أن يتلقوها تلقِّي الجيش للربيئة (٥)، ويضموا إليها ما توضحه شمس أفهامهم المضيئة.

[مقدمة]

الغرضُ من تدريس الإنشاء هو إبلاغُ المتعلِّم إلى الإفصاح عن مُراده كتابةً أو قولًا من أقرب طريق، وسلوك سبل الإفهام بأحسن ما يستطاع من التعبير. ومن الواضح أن ذلك لا يحصل بقواعد مطردة، بل الأصلُ فيه هو الممارسةُ ومزاولةُ مآثر


(١) القطار: من قطر الإبل يقطرها قطرًا وقطَرها، أي صفها وشد بعضها خلف بعض على نسق واحد. مرتاض الشوارد: الإبل النوافر التي جرى ترويضها. استعار المصنف هنا صورة الإبل الشوارد التي حصل ترويضُها فصارت تسير صفًّا واحدًا لمسائل فنِّ الإنشاء التي كانت مشتتةً ومتناثرة بين عدة علوم، فجمعها في صعيد واحد، وألف بينها، فصارت نسقًا بَيِّنَ الأصول، متواشج الفروع، متكامل العناصر.
(٢) الديباج: ضربٌ من الثياب، مشتق من الدَّبْج وهو النقش والتزيين، فارسي معرَّب. وديباج الوجه وديباجته: حسنُ بشرته. ولعل مراد المصنف هنا ترتيبها وتهذيبها.
(٣) يشير المصنف إلى ما كان يتقلده من وظيفة القضاء والحكم في نوازل الناس وما يحصل بينهم من خصومات ومنازعات.
(٤) العُث والعُثَث: جمع مفرده عُثة، وهي السُّوسة أو الأرَضة التي تأكل الصوف والثوب.
(٥) الربيئة: الطليعة والمقدمة. وربيئة الجيش: طليعته.

<<  <  ج: ص:  >  >>