يكون امتناع عمر إشفاقًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكليفه في تلك الحال إملاء كتاب، ولذلك قال: إن النبي اشتدَّ به الوجع، حسبنا كتاب الله"، (١) أي فيكون قوله: "إن رسول الله غلبه الوجع" تعليلًا لقوله: "لا تقربوا إليه اللوح والدواة، وقوله:"حسبنا كتاب الله"، أي: لا يفوت شيءٌ من الهدى بترك هذا الكتاب؛ لأنا معتصمون بكتاب الله. قال المازري في المعلم:"قد فهم عمر أمر النبي أنه أمرٌ غير جازم بقرائن دلت على عدم الوجوب، ثم رأى أن قد يتطرق به المنافقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام بكتاب يكتب في خلوة، ويضيفون إليه ما يشبهون به على الذين في قلوبهم مرض، فلذلك قال عمر: "حسبُنا كتابُ الله"، فكان جوابًا للفريق الذين ألَحُّوا في تحصيل الكتاب.
وبهذا حصل انكشافُ الوجهين السادس والسابع من وجوه الإشكال.
ثم إن عمر قد علم أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تضلوا بعده"، ما يريد به إلا نفيَ الضلال في الغرض الذي يتضمنه الكتاب من الأمور التي عسى أن تكون قد بقيت مجملة. فالضلال المنفيُّ هو ضلالُ الحيرة في محمل ذلك المجمل بحيث يصير مبيَّنًا، فرأى عمر أن هذه المصلحة التي تحصل من كتابة الكتاب قد يفي بها اجتهادُ مجتهدي الأمة في تبيين ذلك المجمل بالبحث عن الأدلة المبيِّنة، أو في ترك العمل بالمجمل والمصير إلى دليل آخر يخلفه من نص أو قياس.
فمآل المصلحة الحاصلة من الكتاب أن أراح مجتهدي الأمة من تعب الاجتهاد في محمل ذلك المحمل، فرأى عمر أن تلقي الأمة هذه المزية من رسولهم في حال اشتداد المرض عليه بإراحة الرسول عليه الصلاة والسلام من عناء الكتاب والإملال، أوجب لشكر عنايته - صلى الله عليه وسلم - بهم، فقال: "إن رسول الله قد غلبه الوجع"، و"حسبنا كتاب الله". وليس في ذلك عصيان لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.