على ظاهره، ويكون فيه إظهار معجزته وهي صدور الكتابة من الأمي. وقد جوز أبو الوليد الباجي وجماعةٌ من المحققين أن يكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب في صحيفة صلح القضية بيده حين امتنع علي بن أبي طالب أن يمحو سطر:"محمد رسول الله". واستند الباجي إلى الحديث الذي في صحيح البخاري. ورأوا ذلك لا ينافي الأمية بعد تقررها، إذ يكون صدور ذلك العلم الجم منذ وقت البعثة إلى يوم القضية من أمي معجزة عظيمة، ويكون صدور الكتابة بعد ذلك ممن تحقق الناس أميته معجزة أخرى. وبهذا زال الوجه الثالث من الإشكال. (١)
من أجل ذلك ظن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتجشم الكتابةَ في تلك الحالة ليؤكد شيئًا مما تضمنه القرآن، فأحب عمر أن يكفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلفة، ويسمعه أنهم على العهد في الوقوف عند كتاب الله، فقال:"إن رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله". قال عياض في الإكمال: "وقيل قد
(١) اليحصبي: إكمال المعلم، ج ٦، ص ١٥١ - ١٥٢. أما الحديث الذي ذكر المصنف أن الباجي وموافقيه استدلوا به، فهو ما رواه عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - قال: "اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله، قال: "أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله"، ثم قال لعلي: "أمح: رسولُ الله". قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدًا من أصحابه أراد أن يقيم بها". فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا عليًّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتبعتهم ابنة حمزة: يا عم يا عم، فتناولها علي، فأخذها بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لِخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك"، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي"، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا"". صحيح البخاري، "كتاب الصلح"، الحديث ٢٦٩٩، ص ٤٤٠. وانظر كذلك: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج ٢، ص ٦٣٤؛ السهيلي: الروض الأنف، ج ٤، ص ٥٠.