للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد بُيِّن في علم المعاني كثيرٌ من المناسباتِ الداعيةِ إلى التقديم والتأخير في أجزاء الجملة، فلا نطيلُ بها هنا، ولكن يجب أن يُعلم السببُ في تقديم ما حقُّه التأخير وعكسه من جمل الكلام. وقد تتبعتُ ذلك حسب الجهد، فرأيتُ أن مِلَاكَ ذلك: ١. إما استبقاء الذهن لما هو أولى بالإيعاء، وتهيئة السمع لما هو أجدرُ بالإصغاء. ٢. وإما الاستراحةُ من غرضٍ خفيفٍ يُقَدَّم، ليفضيَ إلى غرض مهم يؤخَّر. ٣. وإما لأن أحدَ الغرضين وإن كان حقُّه التقديم أو عكسه، لكنه كان من المعاني المتولِّدة والمستطرَدة، واتصلَ بغيره مما قُدِّم أو أُخِّرَ اتصالًا يمنع من التفرقة بينها وبينه؛ لأنها إن فُرِّقَتْ تَشَتَّتَ الذِّهنُ في استيعابها، وتحير في جمعها وترتيبها.

فمثالُ الأول ما ذُكر في علم المعاني من التشويق الحاصل من تقديم الخبر نحو: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" (١)، ونحو: "ثلاثةٌ تشرق الدنيا ببهجتها". (٢) ومثالُ الثاني قول علي - رضي الله عنه - في خطبةٍ له حين بلغه استيلاءُ أصحاب الشام على سائر البلاد، وتثاقلُ أصحابِه عن القتال: "ما هي إلا الكوفةُ أقبِضُها وأبْسُطها، إن لم تكوني إلا أنتِ تهبُّ أعاصيرُك (٣)، فقبحك الله. أُنْبِئْتُ بُسرًا (٤) قدِ اطَّلع اليمن، وإني والله لأظنُّ أن هؤلاءِ القومَ سَيُدَاوِلون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن


(١) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده". صحيح البخاري، "كتاب الدعوات"، الحديث ٦٤٠٦، ص ١١١٢؛ "كتاب الأيمان والنذور"، الحديث ٦٦٨٢، ص ١١٥٤؛ "كتاب التوحيد"، الحديث ٧٥٦٣، ص ١٣٠٥؛ صحيح مسلم، "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار"، الحديث ٢٢٩٤، ص ١٠٣٨؛ سنن الترمذي، "أبواب الدعوات عَن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -"، الحديث ٣٤٦٧، ص ٧٩٦ - ٧٩٧.
(٢) صدر بيت لمحمد بن وهيب الحميري، وعجزه: "شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَمَرُ"، وقد سبق ذكره وتوثيقه، وبيان المناسبة التي قيل فيها.
(٣) الأعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تمتد من الأرض نحو السماء كالعمود، وهي هنا تَمْثيلٌ لِمَا في الكوفة من الفتن واختلاف الآراء. - المصنف.
(٤) بسر هو ابن أبي أرطأة، من بني عامر من قواد جيش معاوية - رضي الله عنه -، وكان بسر ظالِمًا قاسيا. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>