وجدوا فيها من السعة والدقة والإحكام والتنسيق والتفصيل، ما كفاهم المؤنة، ووضع عنهم الحرج؛ إذ مكَّنهم لكل فكرة مهما كانت مخترعةً غريبة عن المعروف في بابها مِنْ قالب تعبير دقيق واضح الانطباق عليها، مُؤَدٍّ لتفاصيلها ومجملاتها، في غير قصور ولا نَبوة ولا حاجة إلى مقارنة أو تسديد. وهذا راجعٌ لا محالةَ إلى أن الفقهاء الذين اشتغلوا من قبلُ بتلك الناحية قد كانوا على جانب من سعة المادة، وحسن التصريف لها، والبراعة في تحميلها المعاني والأفكار التي جعلوها معارضَ لها. وذلك ما سهل للذين جاؤوا من بعدهم أن يجدوا القوالبَ التعبيرية وافرةَ الجهاز، متينة التصرف، مذلَّلَةً لاحتمال المعاني التي أرادوا حملها عليها.
فالناقلون الأولون لنصوص القوانين الأجنبية ونظرياتها - منذ مائة سنة أو تزيد - لم يتوصلوا إلى ما أبدعوا في ما نقلوا إلا بفضل ذلك الكنز الغالي من المصطلحات الفقهية الذي وجدوه بين أيديهم، فأقبلوا ينفقون منه إنفاق مَنْ لا يخشى الفقر. نعم، لقد فاز المتأخرون من القانونيين بذلك الكنز، وأفادوا من معادنه النفيسة صياغةً بديعة للقوانين، ومن درره ترصيعًا عجيبًا لبحوثها ودراساتها. فكيف استطاع الأسلاف الذين أورثونا ذلك الكنز الثمين أن يجمعوا تلك الثروةَ من النفائس التي كنزوها، بعد ما أنفقوا منها طويلًا غير مغلولة أيديهم إلى أعناقهم؟
وإن الذي يتتبع المصطلحاتِ التي يتصرف فيها اليوم رجالُ القانون ويتأمل في الرجوع بها إلى أوضاعها واستعمالاتها في كتب الفقه القديمة، ليَتَبَيَّنُ له أنها استُمِدَّت من المصطلح الفقهي المشترك، المشاع بين المذاهب الفقهية المختلفة، كما استفادت من المصطلحات الخاصة التي ينفرد بها بعضُ المذاهب عن بعض، فما من مذهب من المذاهب الفقهية المدوَّنة إلا للمصطلح الخاص به أثرٌ في إمداد البحوث القانونية المعاصرة.
ولكن الذي يبدو من مقارنة المصطلحات الخاصة بعضها ببعض، في مجال رواجها على أقلام القانونيين المعاصرين، أن المذهبَ المالكي من بين سائر المذاهب الإسلامية، قد كان أقوى إمدادًا، وأوسع أثرًا من غيره في ذلك المجال.