للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونعلم كيف كان هذا الدين دين الفطرة. سمى الله هذا الدين بالفطرة، والفطرة هي ما فطر - أي خلق - عليه المرء طبيعة غير ناشئة عن معاشرة قوم أو مخالطة عادة، بذلك عرفها الشيخ ابن سينا [إذ قال]: " [ومعنى الفطرة] أن يتوهم الإنسانُ نفسَه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لم يسمع رأيًا، ولم يعتقد مذهبًا، ولم يعاشر أمة، [ولم يعرف سياسة]. لكنه شاهد المحسوسات، [وأخذ منها الخيالات، ] ثم يعرض على ذهنه شيئًا [ويتشكك فيه]، فإن أمكنه الشكُّ فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه [الشكُّ] فهو ما توجبه الفطرة. وليس كلُّ ما توجبه فطرةُ الإنسان بصادق، إنما الصادق فطرةُ القوة التي تسمى عقلًا قبل أن يعترضه الوهم". (١) أي الفطرة هي الإدراك الطبيعي الذي لم يكن ذوقًا ناشئًا عن ممارسة عقائد أو عوائد.

وصف الله هذا الدينَ بالفطرة بعد أن تعاشر الناسُ واقتبسوا طبائعَ بعضهم، فماذا أراد بذلك؟ أراد - وهو أعلم - الفطرةَ العقلية التي قد يدركها الشخص وهو مأسورٌ للعوائد وغيرها متى أراد الحقَّ والاهتداءَ ونبذ العصبية العمياء. فالإسلام دينُ الفطرة يأمر بما توجبه الفطرة العقلية الصحيحة: يأمر بمكارم الأخلاق والرحمة والعدل والبر والأدب، ويقيم الحجةَ المناسبة للعقل، فهو وسطٌ بين الفلسفة (٢)، وكل ذلك مما تألفه الفطرة وتهش له، ولا ترضى بصدور ضده من غيرها. فاعتبرَ من الفطرة المتقادمة ما أثَّر آدابًا جميلة في البشر، وألغى المنازعَ الفلسفية المحضة؛ لأنها لا تناسب أن تكون مبدءًا للذين لم ترتض أنفسهم للانتفاع بحقائق الأشياء.


(١) ابن سينا: النجاة في المنطق والإلهيات، تحقيق عبد الرحمن عميرة، ج ١، ص ٧٩ - ٨٠؛ كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق ماجد فخري، ص ٩٩ - ١٠٠؛ وكذلك: الإشارات والتنبيهات، القسم الأول، ص ٣٥٠ - ٣٥٦.
(٢) يبدو أن في هذا الموضع سقطًا بمقدار كلمة على الأقل، حسب ما يقتضيه استعمال لفظة "بين" التي تفيد كون الإسلام يحتل مكانة وسطًا بين الفلسفة وسواها من العقائد. وإن لم يكن ذلك، يمكن أن نقدر ورود لفظ "الفلسفة" بالجمع. والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>