للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعد أن وصف الله الإسلام بأنه الفطرة التي فطر الناس عليها والتي أعدهم لها لولا أن حالت الموبقات، أخبر أن لا تبديل لخلق الله، فجعلها كرمز للإسلام، وهو أن لا يغير أحدٌ خلق الله، ولا يعدل عن سننه إلى تمحلات وهمية ونزعات من أوضاع الجاهلية، ليقطع تدجيلات قوم استرهبوا الناس بدعوى الخصيصات اللدنية. ثم وصف هذا الدين بأنه الدين القيم الذي لا أَمْتَ فيه ولا اعوجاج ولا انحراف عن الحق، وأن أكثر الناس لا يعلمون صلاحَهم فيصدون عنه مجذوبين بزخارف اعتادوها ورهبانية ابتدعوها وسلطة ألفوها وخافوها (١).

الاعتدال هو متوسط الصفات الفطرية مهما كانت كثرتها، والنزوع إلى طرفي الغلو والتقصير تكلف يحثه الذهابُ في مسارح الخيال اختراعًا أو تقليدًا؛ لأن مخترع الغلوِّ إنما أراد الإغراب في شيء يعتبره الناس حسنًا ليزيدهم من حسنه، وحب الزيادة من طباع النفوس المترفعة. أما التقصير فمن آثار النفوس الضئيلة التي لا تقدر أن توفي حق شيء لشغف بحب شهوتها أو جهل بحقيقة الخير. على هاتين القاعدتين أقيمت صروحُ الفساد في العقائد والأعمال المدنية، وجاء التشكيك بالضرورة في الأخلاق، ثم الانحطاط والمغالطة، لعجز النفس عن مداومة التكلف، كما قال أو الطيب:

وَأَسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّرًا ... تَكَلُّفُ شَيْءٍ فِي طِبَاعِكِ ضِدُّهُ (٢)

وقد كان في العرب العصبة وحِمى الجار والكرم والشجاعة والبلاغة، ولكنها كلها كانت تستخدم في غير النافع من مواضعها. فجاء الإسلام يعدلها ويرجع بها


(١) راجع للمصنف تفاصيلَ أوفى في موضوع الفطرة في مقال "فطرة الله" لا هذا القسم، وكذلك في: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص ٣٢ - ٤٥؛ مقاصد الشريعة الإسلامية، ص ٢٥٩ - ٢٦٧؛ تفسير التحرير والتنوير، ج ١٠/ ٢١، ص ٨٩ - ٩٤.
(٢) البيت هو الرابع من قصيدة قالها يمدح كافور الإخشيدي سنة ٣٤٠ هـ. البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج ٢، ص ١١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>