للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلام العرب ومَنْ يليهم من البلغاء من أهل اللسان. وأحسنُ قولٍ يُفْصِح عن هذا قولُ الشيخ عبد القاهر رحمه الله في دلائل الإعجاز: "إن النظمَ هو توخِّي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض". (١) وطريقُ علم ذلك هو عرضُ الأساليب المختلفة من كلام البلغاء على المتعلِّمين ليحصلَ لهم من اختلاف أمثلتها صورٌ متنوِّعة يلوح لأذهانهم منها وقتَ محاولة الإنشاء أنموذجٌ فيما يصلح له من الأغراض، وهو الذي سميناه فيما مضى بـ "القوالب غير الجزئية".

ألا ترى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما راجعه بعضُ المسلمين في دية الجنين بقوله: "كيف نُودِي مَنْ لا شرِبَ ولا أكل، ولا نطَقَ ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطل"، قال له على وجهِ التوبيح: "أسَجْعًا كسجع الكُهَّان" (٢)، فعاب منه الأسلوبَ وإن كان كلامُه عربيًّا


(١) لم أعثر على هذه العبارة بعينها في الدلائل، ولكن جاء فيه ما هو قريب منها كقوله: "اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامَك الوضعَ الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهِجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسومَ التي رُسمت لك فلا تُخِل بشيء منها"، "وإذ قد عرفت أن مدارَ أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقث عندها، ونهاية لا تجد لها ازديادًا بعدها. ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام". الجرجاني: دلائل الأعجاز، ص ٨١ و ٨٧. وقد ساق المصنف كلام الجرجاني بمعناه لا بلفظه.
(٢) أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غُرة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، ووَرَّثَها ولدَها ومَنْ معهم. فقال حَمَلُ بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أَغْرَمُ مَنْ لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثْلُ ذلك يُطَلّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذي سجع". وأخرج عن المغيرة بن شعبة قال: "ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها قال وإحداهما لحيانية قال فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟ فمثْلُ ذلك يُطَل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسجع كسجع الأعراب؟ " قال: وجعل عليهم الدية". صحيح مسلم، "كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات"، الحديثان ١٦٨١ (٣٦) و ١٦٨٢ (٣٧)، ص ٦٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>