للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بليغا. وقد جادل عتبةُ بن ربيعة (١) قريشًا حين أجمعوا على أن يعتذروا لوفود العرب عام ظهور دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله بالقرآن بأن يقولوا: هو شعر أو كهانة أو سحر، فقال لهم: "والله ما هو بزَمْزَمَةِ الكاهن، ولقد عرفت الشعرَ ورجزَه وقصيدَه فما هو بشيءٍ من ذلك، وما هو بكلام بشر" (٢)، ففرق بين آيات القرآن وغيره باختلاف الأسلوب.

ومن الغلط أن يقتصرَ متعلِّمُ الإنشاء على أسلوبِ واحدٍ يعكف عليه، مثل أن يقتصر على أسلوب "مقامات الحريري" أو "رسائل ابنَ الخطيب" (٣) أو غيرها، فلا يرتسم في ذهنه إلا ذلك، حتى إذا أراد أن ينشئ لم يستطع أن يعدوَ ذلك الأسلوب مع أنه لا يحسن في جميع مواقع الإنشاء. كما أنه لا يحسُن أن يقتصر على نوعٍ من أنواع الإنشاء الأدبي كالرسائل فقط، فإن للإنشاء أنواعًا كثيرة.

فمن أنواعه المراسلةُ، والخطابةُ، والمحادثةُ، والتصنيفُ، والمقاماتُ، والوصف. وكلُّها فنونٌ كثيرة، ويجيء الإنشاءُ فيها نظمًا ونثرًا، ولكلٍّ منها لهجةٌ وأسلوبٌ يخالف ما لغيره. فلا بدَّ من ممارسةِ طُرُق البُلغاء في هاته الأنواع وفنونها، ليحصلَ للممارس ذوقٌ وملكةٌ يستطيع بهما أن يعرف ما يجب في كلَّ مقامٍ من هاته المقامات بحسب العصور والعوائد (٤). فليس ما يحسن للشاعر أو الخطيب يحسن للمؤرِّخ، فلو أن


(١) الصواب أن الذي فعل ذلك هو الوليد بن المغيرة، لا عتبة بن ربيعة.
(٢) ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار: سيرة ابن إسحاق المسماة كتاب المبتدإ والمبعث والمغازي، تحقيق محمد حميد الله (فاس: معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، ١٣٩٦/ ١٩٧٦)، ص ١٣١ - ١٣٢؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ١، ص ٢١٦. وقد نسب مثلُ هذا إلى النضر بن الحارث بن كلدة، كما ذكر ابن إسحاق (ص ١٨١ - ١٨٢).
(٣) الحريري صاحب المقامات معروف، ولسان الدين ابن الخطيب ستأتي ترجمته في حاشية على "شرح المقدمة الأدبية للمرزوقي"، ولكن نذكر من رسائله هنا "ريحانة الكتاب ونجعة المرتاب"، و"خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف".
(٤) لهذا نرى الكتابَ والشعراء من أهل العصور الإسلامية الأولى قد ابتدعوا في الإنشاء، وابتكروا المعاني، وفاقوا إنشاء العرب الأولين بالرقة وحسن الصفات. ونرى من جاء بعدهم يكتبون كلامًا حسنًا، ولكن قلما وجدنا منهم مَنْ يُشبه إنشاؤه الإنشاء العربي. وذلك لأن كتاب العصور الأولى =

<<  <  ج: ص:  >  >>