للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يَحْسُنُ السَّجْعُ في البدائه والارتجالات؛ لأنه يصرف الذهنَ عن المحافظة على المعنى، بخلافِ الكاتب فإنه في سعة من أمره. ولهذا لا نجد السَّجْعَ كثيرًا في كلام العرب ومن يليهم ممن كانوا لا يُزَوِّرون الكلامَ من قبل. وما يُرى في "نهج البلاغة" من الخُطَبِ المنسوبةِ لسيدنا علي - رضي الله عنه - من هذا النوع، فهو من موضوعاتِ أدباء الشيعة، كما هو مشهور.

ولا يرتجلُ أحدٌ خطابًا مسجوعًا إلا وقد دلَّ على أنه محفوظٌ لديه من قبل.

والسَّجْعُ يكسو الكلامَ الخلِيَّ عن المعاني الفائقة وعن المحاسن اللفظية جمالًا، ولذلك يأوي إليه ضعفاءُ الكتاب كما قال ابن خلدون (١). بخلاف الترسُّل، فلا


(١) قال ابن خلدون: "واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تُستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخِّرون أساليبَ الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثورُ إذا تأملتَه من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصًا أهل المشرق. وصارت المخاطباتُ السلطانية لهذا العهد عند الكُتَّاب الغُفَّلِ جاريةً على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صوابٍ من جهة البلاغة، لما يلاحَظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطِب والمخاطَب. وهذا الفنُّ المنثور المقفى أدخلَ المتأخرون فيه أساليبَ الشعر، فوجب أن تُنَزَّه المخاطباتُ السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تباح فيها اللَّوذَعِيَّة وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كلِّه ضرورةٌ في الخطاب. والتزام التقفية أيضًا من اللوذعة والتزيين، وجلال الملك والسلطان، وخطابُ الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب، ينافي ذلك ويباينه. والمحمودُ في المخاطبات السلطانية الترسُّل، وهو إطلاقُ الكلام وإرسالُه من غير تسجيعٍ إلا في الأقلِّ النادر، وحيث ترسله الملكةُ إرسالًا من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقَّه في مطابقته لمقتضى الحال. فإن المقامات مختلفة، ولكل مقامٍ أسلوب يخصه: من إطناب، أو إيجاز، أو حذف، أو إثبات، أو تصريح، أو إشارة وكناية واستعارة. وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهلَ العصر إلا استيلاءُ العجمةِ على ألسنتهم، وقصورُهم لذلك =

<<  <  ج: ص:  >  >>