للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضًا؛ لتحصل لهم من تفكيرهم وسعيهم قوةُ التعاضد والتآزر، فيبذل كلٌّ ما يستطيع بذلَه من كده أو من كسبه، عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيلُ معظم أماني الجميع. (١) وبذلك التفكير والتعاضد امتاز البشر عن أصناف الحيوان:


(١) قال الفارابي: "وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج - في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته - إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال. فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كلُّ واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه؛ فيجتمع، مما يقوم به جملةُ الجماعة لكل واحد، جميعُ ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية". الفارابي، أبو نصر: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، نشرة بعناية علي بوملحم (بيروت: دار ومكتبة الهلال، ١٩٩٥)، ص ١١٢ - ١١٥. وانظر له كذلك: "كتاب تحصيل السعادة" ضمن الفارابي: الأعمال الفلسفية، تحقيق جعفر آل ياسين (بيروت: دار المناهل، ط ١، ١٤١٣/ ١٩٩٣)، ج ١، ص ١٣٩. وقال ابن سينا: "إنه من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يُحسن معيشته لو انفرد وحده شخصًا واحدًا يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكفيًّا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضًا مكفيًّا به وبنظيره. . . فإذا كان هذا ظاهرًا، فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركته، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة (أي قانون) وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانٍّ ومعدِّل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة". ابن سينا: الشفاء: الإلهيات، ص ٤٤١. وقال ابن خلدون في شرح المقدمة الأولَى من مقدمات الكتاب الأول: "في أن الاجتماع الإنساني ضروري: ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلًا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. . . وإذا كان التعاون، حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه. =

<<  <  ج: ص:  >  >>