للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اعتقد الناسُ فيه حين انتقل من الحبسة إلى الفصاحة أن الجن لطمته على وجهه ليتعلم الفصاحة، وكذلك كان اعتقادُهم في الشعراء أن الجن تتراءى لهم وتملي عليهم، فقال في ذلك الشاعر:

وَعَمْرُو لَطِيمُ الْجِنِّ وَابْنُ مُحَمَّدٍ ... بِأَسْوَأ هَذَا الأَمْرِ يَلْتَبِسَانِ (١)

وسبَّه رجلٌ يومًا فقال له: "يا لطيم الشيطان، ويا عاصيَ الرحمن". (٢)

ومن قبلُ حُكي مثلُ هذا التدرب عن ديموستين خطيب اليونان في عهد الإسكندر الأكبر، وقد تقدم ذلك في مقدمة قسم الإنشاء. ونحو سقوط الأسنان، وكان عبد الملك بن مروان رحمه الله قد شد أسنانه بالذهب لما كبرت سنه وقال: "لولا المنابر [والنساء]، ما بَالَيْتُ متى سقطَتْ". (٣) ومن العيب الفطري ما لا يمكن تجنبُه، كبحة الصوت، والفهاهة، واللثغة ببعض الحروف (٤)، وضيق النفس، فجدير بصاحبها أن يتجنب هذه الصناعة.

وأما العيبُ المكتسب فهو أشياء تعرض للخطباء في أول اشتغالهم بالخطابة من أفعال تصدر عن غير اختيار، فإن هم غفلوا عن مراقبة أنفسهم لإزالتها صارت لهم عوائدَ سيئة، وقد نهى الأدباء عن أمورٍ من ذلك، كالتنحنح ومسح اللحية، أي في أثناء الخطبة لا عند الشروع (٥)، على أنه يُغتفر منه ما لا يكثر إذا طال الكلامُ جدًّا،


(١) المرجع السابق، ص ٢١٤.
(٢) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٢١٤؛ كتاب الحيوان، ج ٦، ص ١٧٨.
(٣) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٥٠.
(٤) إن اللثغ ببعض الحروف هو قلبها إلى حرف آخر، كقلب الراء غينًا والشين ثاء. ويتعذر التفادي منه إلا ما روي نادرًا عن واصل بن عطاء الغزال أنه كان يلثغ بالراء غينًا، فتجنب في كلامه كلَّ لفظ فيه راء وعوضه بمرادفه. - المصنف. انظر: الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ١٨.
(٥) لأن التنحنح عند الشروع يعين على رفع الصوت، قال الحريري في المقامة الحادية والثلاثين: "تسنم إحدى الأكام، ثم تنحنح مستفتحًا للكلام". وقال في المقامة الثلاثين: "فلما جلس على زُربيته، =

<<  <  ج: ص:  >  >>