للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يوجد هذا في كل خطيب. ومثل ما سماه أرسطو بالسَّمْت (١)، وهو أن يكون على هيئةٍ معتَبَرةٍ في نفوس الجمهور: من لبسه، وحركته، ونحو ذلك. وقد أشار الحريري إلى هذا في المقامة الثامنة والعشرين فقال: "برز الخطيبُ في أُهْبته، متهاديًا خلف عُصْبته" (٢)، فأشار إلى لباسه ومشيه.

وأما شروطُ الخطيب في نفسه فأهمُّها اعتقادُه أنه على صوابٍ وحق؛ لأن ذلك يودع كلامَه تأثيرًا في نفوس السامعين، وأقوى له في الدعوة إليه والدفاع عنه. ويحصُلُ ذلك بالتزامه متابعةَ الحق، وبكونه على نحو ما يطلبه من الناس. وانظر ما حكاه الله تعالى عن شعيب: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)} [هود: ٨٨].


(١) وهو ما يعبر عنه في اللغة اللاتينية بلفظ Circumspectio. قال أرسطو في بيان معنى السمت وإبراز أهميته خلال تعريفه للخطابة ووظيفتها وغايتها: "فأما التصديقات التي نحتال لها بالكلام فإنها أنواعٌ ثلاثة: فمنها ما يكون بكيفية المتكلِّم وسمته، ومنها ما يكون بتهيئة السامع واستدراجه نحو الأمر، ومنها ما يكون بالكلام نفسه قبل التثبيت. فأما بالكيفية والسَّمت فأن يكون الكلامُ بنحوٍ يجعل المتكلِّمَ أهلًا أن يُصَدَّقَ ويُقبل قولُه. والصالحون هم المصدَّقون سريعًا بالأكثر في جميع الأمور الظاهرة، فأما التي ليس فيها أمرٌ قاطع، ولكن وقوف بين ظنَّين، فإن هذا النحو أيضًا مما ينبغي أن يكون تثبيته بالكلام لا بما ذكرناه آنفًا من كيفية المتكلم وسمته. . . بل الكيفية والسمتُ قريبٌ من أن يكون له التصديق بالحقيقة". وقال ابن رشد في شرحه: "فأما التصديقات التي نفعلها نحن ونخترعها فهي ثلاثة أنواع: أحدها إثباتُ المتكلم فضيلةَ نفسه التي يكون بها أهلًا أن يُصدَّق، كما قال تعالى حاكيًا عن هود: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)} [الأعراف: ٦٨]. وأن يكون عند التكلم بهيئة في وجهه وأعضائه شأنها أن توقع التصديقَ بالشيء المتكلَّم فيه، مثل التؤدة والوقار وغير ذلك. والفضيلة التي شأنها هذا هي التي يعني أرسطو بالكيفية، والهيئة التي شأنها هذا هي التي يعني بالسَّمت". أرسطوطاليس: الخطابة، ص ١٠؛ ابن رشد: تلخيص الخطابة، ص ١٧.
(٢) الحريري: المقامات الأدبية، ص ٢٨٥ (المقامة السمرقندية).

<<  <  ج: ص:  >  >>