وحاولت أن أقرأ فيه، ولكني لا أذكر أني فقهتُ منه شيئًا ألبتة؛ لأني في الحقيقة لم أستطع مواصلةَ القراءة فيه فضلًا عن إكماله، إذ كانت لغتُه وأسلوبه ومضمونه فوق إدراكي بمقام بعيد. وعندما انتهت مدةُ الاستعارة قادنا الأستاذ مرة أخرى إلى المكتبة، وأعدتُ الكتابَ في حالة جيدة لم يصب بسوء!
ومرت الأيامُ وتصرمت السنون، ومرَّ عليَّ اسمُ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كطيف حلم، أو كما يمر أيُّ حدثٍ عاديٍّ عابر على وعْيِ يافعٍ حَدَث، وانخرطتُ في ضروب من الدراسة والقراءة النظامية وغير النظامية لم يكن أيٌّ من مؤلفات ابن عاشور من بينها، فانقطعتْ صلتي به انقطاعًا طويلًا. حتى إذا كان العام ١٩٨٨ وقد تمكنت في نفسي فكرةُ التجديد والبحث في لوازمها ومتعلقاتها - مسالك وقضايا ومجالات ومآلات - بفضل المناقشات التي كنتُ أحضرها في بعض المنتديات الفكرية بجامعة الخرطوم وجامعة أم درمان الإسلامية وغيرهما من المواقع، وبفضل ما كان يعتمل في أوساط الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الدكتور حسن الترابي من زخم فكري، سعيتُ إلى الحصول على نسخةٍ من كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور. وإذ كنتُ منقطعًا عن الأهل وعن تونس مذ غادرتها قهرًا أواخر عام ١٩٨١، وكان الكتابُ نادرَ الوجود في المكتبات العامة والخاصة بالخرطوم، رجوتُ من الأخ الأستاذ الفاضل البلدي حفظه الله مساعدتي في ذلك فما تأخر عن تلبية بغيتي. وعلى الرغم من أني قرأت الكتاب بنهم ودون انقطاع حتى آخره، إلا أني لم أعْدُ ذلك إلى أيِّ نوعٍ من المدارسة العميقة لمباحثه والنظر في مسائله وقضاياه.
وانقضت أعوامٌ عِشْتُ فيها أصنافًا أخرى من التجارب تركت آثارًا متفاوتة في وعيي الفكري ونموِّي العقلي وفي رؤيتي للأمور، وإذا بي أُراني في العام ١٩٩٧ مسوقًا، مع انشراح صدر ومن دون سابق تخطيط، إلى العناية بذلك الكتاب وبصنوه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، دراسةً وتوثيقًا وتحقيقًا، على الرغم من أن ذلك كان على حساب دراستي في مرحلة الدكتوراه التي تخليتُ عنها وانخرطت في