للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكى القاضي الفاضل قال: "أرسلني أبي إلى يوسف بن أبي الخلال رئيس ديوان الإنشاء بمصر في الدولة الصلاحية لتعلم فن الكتابة، فرحب بي: ثم سألني: ما الذي أعددتَ من الآلات؟ فقلت القرآن وكتاب الحماسة، فقال: إن في هذا لبلاغًا. فلما ترددتُ إليه وتدَرَّبْتُ بين يديه، أمرني أن أحل شِعرَ الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية ففعلت، فقال لي: اشتغل بمثل هذا وأنت إذًا تحسن الإنشاء". (١)

ومما يجب التنبهُ له أن المرجِعَ في كل صنفٍ إلى اختيارِ جيِّدِ إنشاء فحوله، ففي الكتابة يجبُ أن تُتبع أساليب مجيديها من كتابة ديوانية أو أدبية أو علمية أو صحافية، وفي الشعر كذلك، وفي الشروط والتوثيق كذلك، وفي الخطابة كذلك. وفي المحادثات يجب التمرُّنُ بمطالعة محادثات العرب، وقِصارِ الجُمَلِ والأجوبة البديعة؛ فإن معرفةَ المراسلة والخطابة لا تُغني عن معرفة كيفية المحادثة. ألا ترى أنه لو عمد إنسانٌ إلى أن يكتب كما يتكلَّم لجاءت كتابتُه مقطعة، وكذا لو تكلم كما يكتب لكان كمن يسرد شيئًا محفوظا.

وهكذا تجد لكل فن لهجة تشبه أن تكون لغة خاصة. فمن الغلَطِ الكبير أن يلتزم المتمرِّنُ أسلوبًا واحدًا، أو طريقةً منفردة، لا يعدو ذلك إلى غيره. وقد تنبهتَ إلى أنموذج ذلك، وفي استقرائه كثرة، وليس الرِّيُّ عند التَّشَافِّ (٢). والله أعلم.


(١) ابن الأثير، ضياء الدين نصر الله بن محمد الشيباني الجزري: الوشي المرقوم في حل المنظوم، تحقيق يحيى عبد العظيم (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ٢٠٠٤)، ص ١٧٩ - ١٨٠. وقد حكى ابن الأثير ذلك - كما ذكر - سماعًا من القاضي الفاضل نفسه بمدينة دمشق سنة ٥٨٨ هـ.
(٢) الصواب: "وليس الرِّيُّ عند التَّشاف"، والتشاف هو بقية الشراب في الإناء، ويُضرب هذا القول "مثلًا للقناعة ببعض الحاجة، أي ليس قضاء الحاجة أن تُدركها إلى أقصاها، بل معظمها مقنع". العسكري: كتاب جمهرة الأمثال، ج ٢، ص ١٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>